کلمة رئیس التحریر
رمضان؛ مائدةُ السَّماءِ وروضةُ القلوب
رمضانُ شهرٌ تهبُّ نسماتُهُ من السَّماء، فتُنعشُ الأرواحَ الظامئةَ، وتغسلُ القلوبَ المُغبَّرةَ بوابلِ الرحمةِ والمغفرة. إنّهُ قافلةُ نورٍ تهبطُ على الأرضِ في لياليها الحالكة، فتُضيءُ دروبَ التائهين، وتفتحُ لهم أبوابَ الهدايةِ والرُّشد. لحظاتُه دررٌ ثمينةٌ، تتلألأُ على عقدِ الزمان، وكلُّ نفسٍ فيهِ معطَّرٌ بذكرِ اللهِ وحبِّه.
رمضانُ هو الشهرُ الذي انهمرَ فيهِ القرآنُ كالمطرِ على أرضِ القلوبِ، فأنبتَ فيها سنابلَ الهدى، وأرسى فيها شجرَ المعرفةِ الذي يُظلِّلُ العقولَ الحائرةَ، ويمنحُها الثَّمرَ الطيبَ من الحكمةِ والبصيرة. وليالي القَدرِ فيهِ هي ليالٍ تهبطُ فيها الملائكةُ زرافاتٍ ووحدانًا، لتجعلَ الأرضَ روضةً من الذِّكرِ والتَّسبيحِ، وتفتحَ أبوابَ السماءِ للدُّعاءِ المتضرِّعِ من القلوبِ المنيبة.
لكنَّ رمضانَ ليسَ مجردَ شهرٍ للعِبادةِ الفرديَّةِ، بل هو جسرٌ تمتدُّ عليهِ القلوبُ، فتتَّصلُ ببعضِها البعضِ في أسمى معاني الإخاءِ والمحبَّة. حينَ يصومُ الإنسانُ، يشتعلُ العطشُ في جوفِهِ، ليُدركَ بحواسِّهِ قبلَ عقلِهِ كيفَ يعيشُ المحرومونَ والمساكينُ. والجوعُ يُصبحُ مرآةً يرى فيها وجهَ الفقرِ الحقيقي، فيبسطُ يدهُ بالكرمِ، ويفتحُ قلبَهُ بالرَّحمةِ والإحسان.
وفي هذا الشَّهر، يتحوَّلُ المجتمعُ إلى بستانٍ مزهرٍ، تمتدُّ فيهِ جذورُ التَّكافلِ، وتُزهرُ أغصانُ التَّراحمِ، وتُثمرُ أيادي البذلِ والعطاء. موائدُ الإفطارِ لا تقتصرُ على الخبزِ والماء، بل تمتدُّ بفيضِ المحبَّةِ والخير. دموعُ النَّدمِ عندَ أبوابِ المغفرةِ، وابتساماتُ الإحسانِ على وجوهِ المتصدِّقينَ، قطراتٌ زكيَّةٌ من زلالِ هذا الشَّهرِ العظيم.
ما أجملَ أن لا نقفَ عندَ حدودِ السَّحَرِ، ولا نكتفي بالقيامِ والدُّعاءِ، بل نفتحُ قلوبَنا للآخرينَ، ونمدُّ أيادينا بالعونِ، ونُحيلُ رمضانَ إلى موسمِ خيرٍ يتدفَّقُ في كلِّ دربٍ وزاوية. رمضانُ نبعٌ زلالٌ في صحراءِ الرُّوحِ، وطوبى لمن نهلَ من مائهِ، وحملَ معهُ نداوتَهُ في رحلةِ العمرِ كلِّها.