printlogo


printlogo


مقالة إنتاج أسلحة الدمار الشامل من منظور فقهي إسلامي
القواعد الفقهية والدليل العقلي نموذجاً

 ثانياً-الدليل العقلي:
أ- أهمية الدليل العقلي:
يرى بعض العلماء أن الأحكام الشرعية توقيفية، بمعنى أنه ليس للعقول فيها مسرح، بل المرجع فيها إلى الكتاب العزيز، والسُّنَّة المطهرة. أضف إلى ذلك أن هناك الكثير من العلوم، التي تتفرَّع منها علوم أخرى، وهي تزداد سعةً وعمقاً مع مرور الزمن، بحيث يعجز الإنسان عن الإحاطة بها إحاطةً تامةً، أو شاملةً، إذ أصبح في كل علم تخصصات عديدة. زد على ذلك أن عقل الإنسان قاصر عن إدراك الكثير من الأمور، ومنها "ماهية الروح"، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً﴾.
وهكذا نرى أن الله تعالى ذكر العقل في مواضع كثيرة في كتابه العزيز. ولا تخفى أهمية العقل على أحد، فقد حثَّ القرآن الكريم- وهو أهم مصدر من مصادر استنباط الأحكام الشرعية- الناس على استعمال عقولهم، ليعرفوا الله من خلال ذلك، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
 ويوجه الله تعالى اللوم والتأنيب لشريحة من الناس لا ينظرون إلى روعة الخلق من حولهم، ولا يتفكرون في خلق الله، ولا يأخذون العِبر، قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
ب- الإدراك العقلي:
وهكذا نرى أن الله تعالى ذكر العقل في مواضع كثيرة في كتابه العزيز، وبيَّن أهميته في حياة الإنسان، فهو رسول باطن، ونعمة إلهية تُعطي للوجود معناه، ولكن ذلك لا يعني أن العقلَ يستقلُّ في إدراك الأحكام وملاكاتها، بل يُدرك الملازمة بين الحكم الثابت شرعاً، أو عقلاً، وبين حكم شرعي آخر، كحكمه بالملازمة بين الواجب ومقدمته. ونلفت إلى أن الأصوليين قسموا المقدمة إلى قسمين:
1- المقدمة الوجوبية، وهي ما يتوقف عليها نفس الوجوب، بأن تكون شرطاً له، ومثالها الاستطاعة بالنسبة إلى الحج، والبلوغ، والعقل، بالنسبة إلى التكليف، ويسمى الواجب بالنسبة إليها، الواجب المشروط.
2- المقدمة الوجودية، وهي ما يتوقف عليها وجود الواجب، فيكون الوجوب بالنسبة إليها مطلقاً، فلا بد من تحصيلها كمقدمة لتحصيله، ولا شك أن المقدمة الوجودية هي مدار بحث الوجوب.
 ونبدأ بمسألة وجوب مقدمة الواجب، فإذا كان الإتيان بالواجب يتوقف على حصول مقدِّماته، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة، والسفر بالنسبة إلى الحج، فلا بد للإنسان العاقل من تحصيل تلك المقدمات التي هي عبارة عن علل، أو شروط، أو رفع موانع. فالعقل لا شك يحكم بوجوب مقدمة الواجب، أي يدرك لوازمها، وقد أجمع الأصوليون على هذه اللابُدِّيَّة العقلية للمقدمة التي لا يتم الواجب إلا بها. ولكن هل يحكم أيضاً بأنها واجبة عند المولى الذي أمر بالواجب الذي يتوقف عليها؟ لقد كثرت الأقوال والنقاشات في المسألة، وليس المقام مناسباً لمناقشتها، فوجوبها العقلي كافٍ لتحريك المُكَلَّف باتجاه الإتيان بها، ومع فرض وجود الداعي في نفس المُكَلَّف للإتيان بكل ما يتوقف عليه المأمور به تحصيلاً له، لا تبقى حاجة إلى داع آخر من قِبل المولى لأنه عبث ولهو، بل يمتنع ذلك ويستحيل لأنه تحصيل للحاصل.
ج- الدليل العقلي على الحرمة:
 لا شك أن الامتثال للأمر الإلهي في الإعداد للقوة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً يوجب علينا العمل على الأخذ بأسباب القوة ومنها أسلحة الدمار الشامل التي تُعَدُّ من أقوى أسلحة هذا العصر. والحصول على هذه الأسلحة إما أن يكون عبر شرائها وهو أمر صعب جداً حيث يُفرض حظر دولي كبير على بيعها، وإما عبر إنتاجها محلياً، وذلك بالاعتماد على قدرات الدولة الإسلامية الذاتية، ويمكن الاستعانة بخبراء من دول أخرى.
ولا بد لنا في هذا البحث الفقهي من الاستفادة من الدليل العقلي وحجيته، إضافةً إلى بعض المسائل الأصولية التي تدخل كقضايا كبرى في القياس المنطقي الذي سنعتمد عليه في الدليل العقلي لإثبات الحكم الشرعي في قضية إنتاج أسلحة الدمار الشامل. والدليل العقلي الذي سنستدل به على حرمة إنتاج أسلحة الدمار الشامل يُراد به تحريم ما هو قبيح عقلاً، على أن الحُسن والقُبح صفتان واقعيتان يُدركهما العقل.
ونلفت إلى أن هناك قياساً له حجية عقلية وهو قياس الأولوية، وهو ما كان اقتضاء الجامع فيه للحكم بالفرع، أقوى منه في الأصل. ومثاله ما ورد في الكتاب من النهي عن التأفف من الوالدين، القاضي بتحريم ضربهما، وتوجيه الإهانة إليهما. وبناء عليه، فإذا كان الإسلام يحرِّم الإضرار بالبيئة عبر رمي القاذورات، والقمامة، فمن باب أولى أن يحرِّم صنع واقتناء واستخدام أسلحة الدمار الشامل.
أضف إلى ذلك أن السنوات الأخيرة قد شهدت وعياً متزايداً، بأن بقاء الجنس البشري أصبح محفوفاً بأخطار كبيرة، بسبب تأثير الإنسان في البيئة. وبالتالي فإن الإضرار بالبيئة ظلم، والظلم قبيح عقلاً، وما قبَّحه العقل حرَّمه الشرع. فتكون المعادلات كالآتي:
 المعادلة الأولى:
- القضية الصغرى: الإضرار بالبيئة ضرراً مُعْتَدّاً به، قبيح عقلاً.
- القضية الكبرى: ما يحكم العقل بقبحه يحكم الشرع بحرمته.
- النتيجة: الإضرار بالبيئة حرام شرعاً.
إن عملية إنتاج أسلحة الدمار الشامل تشوبها المخاطر الكبيرة والخطيرة على البيئة، وعلى البشرية جمعاء، فحتى لو اتخذت الدول المصنِّعة الاحتياط اللازم، يبقى احتمال وقوع كوارث بيئية ناتجة عن تسرُّب إشعاعات نووية مع الزمن أمراً واقعياً. فتكون المعادلات كالآتي:
 المعادلة الثانية:
- القضية الصغرى: إنتاج أسلحة الدمار الشامل يضرُّ بالبيئة.
- القضية الكبرى: الإضرار بالبيئة حرام شرعاً.
- النتيجة: إنتاج أسلحة الدمار الشامل حرام شرعاً.
قد يُقال بأن جواز إنتاج أسلحة الدمار الشامل أمر مشروط ومقيَّد بأن لا يكون السعي لإنتاج هذه الأسلحة مضراً بالبيئة بحيث يلحق الضرر بالإنسان، حتى على مستوى الأجيال اللاحقة، أو بالحيوانات، أو بالنباتات. والأمر في هذه القضية يُرجع فيه إلى أهل الخبرة، والمقصود بهذا القيد أنّ الطبيعة ليست ملكاً شخصياً إذا نظرنا إليها بمجملها، بل هي ملك الإنسان، بما في ذلك الأجيال اللاحقة. وعنوان الضرر لا يختصّ بإلحاقه بمن هم أحياء اليوم، بل يصدق عرفاً أيضاً على الأجيال اللاحقة. فإذا كان في إنتاج هذه الأسلحة إنتاجاً لنفايات سامة تلحق ضرراً بالبيئة العامة للأرض، الأمر الذي يؤدي تدريجياً إلى إلحاق الضرر بالناس ولو على مستوى الأجيال القادمة، حَرُمَ الأمر. وفي سياق ذلك قد يسأل بعض الناس: هل أن إنتاج أسلحة الدمار الشامل يضر بالبيئة؟ والجواب أن صنع هذه الأسلحة يحتاج إلى القيام بتجارب مضرة بالبيئة كما هو معلوم.
وفي الختام نقول إننا لا نريد تشجيع صناعة الأسلحة النووية، فضلاً عن انتشارها، بل وندعو إلى التخلص منها، والقضاء عليها، وأقصى أمانينا أن يأتي يوم على الإنسان وقد خلت مخازن الجيوش من السلاح النووي، بل من كل أسلحة الدمار الشامل، لتعيش البشرية بأمن وسلام. ولكن لا بد لأمتنا أيضاً من امتلاك أسباب القوة، بل أسباب ردع العدو، التي تمكنها من الدفاع عن الإسلام والمسلمين، عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وأراضيهم ومقدساتهم، ولا قوة إلا بالله.
تمت
المصدر: مجلة الوحدة الإسلامیة، السنة الثالثة عشر ـ العدد 144 ـ ( ـ محرم ـ صفر 1435 هـ) كانون أول ـ 2013 م)