رئیس التحریر لأسبوعیة «الآفاق»
السيدة فاطمة المعصومة(س) لعبت دورًا فريدًا في تعزيز المكانة العلمية لمدينة قم، وهو تأثير يمكن دراسته من جوانب متعددة:
*تأسيس مركزية قم العلمية
وجود ودفن السيدة المعصومة(س) في قم جعل من هذه المدينة واحدة من أهم المراكز العلمية في العالم الشيعي. قبل قدومها، كانت قم تُعتبر مركزًا لتجمع أتباع أهل البيت (ع) بسبب وجود عائلة الأشعري وبعض الشيعة فيها. ولكن مع قدومها وإقامتها الدائمة (ثم استشهادها ودفنها في المدينة)، تحولت قم إلى مركز علمي بارز يتجاوز مجرد كونه مركزًا شيعيًا. وقد أشار الإمام الصادق(ع) إلى ذلك بقوله: "قم عش آل محمد(ص) ومأوی شيعتهم"، وقد تحقق هذا الوصف مع حضور السيدة المعصومة(س)، حيث أصبحت قم مركزًا أساسيًا لعلوم أهل البيت(ع).
*جذب العلماء والمحدثين الشيعة
بعد استقرار مرقد السيدة المعصومة(س) في قم، بدأت هجرة العلماء والمحدثين الكبار إلى المدينة. كان هذا بسبب رغبتهم في القرب من الحرم الطاهر، مما أدى إلى نشوء حلقات علمية وتبادل للمعرفة. ومن بين هؤلاء المحدثين الكبار زكريا بن آدم القمي (من أصحاب الإمام الرضا(ع)، وأحمد بن إسحاق القمي (وكيل الإمامين الهادي والعسكري(ع). وأصبحت قم بعد ذلك قاعدة علمية لعدد كبير من الأسر العلمية.
*تأسيس مدرسة قم الحديثية
من أبرز نتائج وجود السيدة المعصومة (س) في قم هو تأسيس المدرسة الحديثية القمية، التي تُعرف بدقتها واعتمادها على الأحاديث الموثوقة. وتُعد المدرسة الثانية في العالم الشيعي بعد المدرسة الحديثية الكوفية. ومن سمات هذه المدرسة:
• الدقة في نقل الروايات.
• تجنب الأحاديث غير الموثوقة.
• التركيز على سلسلة الإسناد.
• تأليف كتب حديثية معتبرة.
وقد أصبحت هذه المدرسة مرجعًا هامًا في علوم الحديث الشيعية، وأسهمت في إنتاج آثار قيّمة مثل "تفسير القمي" لعلي بن إبراهيم القمي.
*تأسيس أولى الحوزات العلمية الشيعية
وجود مرقد السيدة المعصومة(س) أدى إلى نشوء الحوزات العلمية الشيعية الأولى في جوارها. بدأت هذه الحوزات كمجالس دراسية صغيرة حول الحرم الشريف، ومع مرور الوقت، تطورت إلى مراكز تعليمية دينية هامة تُدرّس فيها الفقه والأصول الجعفرية. ومع الزمن، أصبحت قم مركزًا رئيسيًا للعلوم الفقهية، الحديثية، الكلامية، والتفسيرية، ولعبت دورًا كبيرًا في حفظ التراث العلمي لأهل البيت(ع).
*إحياء فكر الإمامة والولاية
كانت السيدة المعصومة(س) من الناقلين الموثوقين للأحاديث، ومعظم رواياتها كانت تتمحور حول الإمامة والولاية. وقد استمر هذا التراث الروائي في قم بعد استشهادها، مما جعل المدينة مركزًا رئيسيًا للبحث والنقاش حول هذه الموضوعات. وقد أنتج المحدثون القميون أعمالًا قيّمة في إثبات الإمامة وشرح مكانة أهل البيت(ع)، معززين بذلك الأسس العقائدية للشيعة.
*تأثيرها على تأسيس المراكز العلمية في العصور اللاحقة
لم يكن أثر السيدة المعصومة(س) مقتصرًا على القرون الأولى، بل استمر عبر تاريخ التشيع، حيث كان مرقدها الطاهر مصدر إلهام لتأسيس مراكز علمية عديدة. ويُعتبر الحوزة العلمية في قم اليوم أكبر مركز لتعليم العلوم الدينية الشيعية، وله جذوره في بركة وجود هذه السيدة الجليلة. وقد شهدت الحوزة نهضة كبيرة بفضل جهود علماء مثل آية الله حائري اليزدي، وآية الله بروجردي، والإمام الخميني.
*التواصل مع المراكز العلمية الأخرى
كان وجود السيدة المعصومة(س) في قم سببًا في ربط المدينة بالمراكز العلمية الشيعية الأخرى مثل المدينة، الكوفة، الري، وخراسان. وكان العلماء يأتون إليها للزيارة، مما أدى إلى تبادل علمي واسع بين الحوزات المختلفة، وساهم في إثراء الفكر الشيعي.
*تشجيع التأليف الديني ونشر القيم الإسلامية
ببركة وجود السيدة المعصومة (س)، أصبحت قم مركزًا لتأليف الكتب الدينية، حيث أُلفت فيها كتب مهمة في الفقه، الحديث، الكلام، والتفسير. ومن أبرز المؤلفين الذين استفادوا من قربهم من مرقدها الشيخ الصدوق (توفي 381 هـ)، الذي كتب بعضًا من أهم أعماله في قم.
*مواجهة الانحرافات الفكرية والعقائدية
لعبت المدرسة العلمية القمية، بفضل بركة السيدة المعصومة(س)، دورًا مهمًا في مواجهة الانحرافات الفكرية والعقائدية والحفاظ على أصالة تعاليم أهل البيت(ع). وقد اعتمدت هذه المدرسة على التراث الروائي الموثوق لتكون حصنًا للشيعة في مواجهة التيارات الفكرية المنحرفة.
*استمرار الدور العلمي لقم حتى العصر الحاضر
اليوم، تُعد قم أكبر مركز لتعليم العلوم الدينية الشيعية في العالم، حيث يدرس فيها آلاف الطلاب من جميع أنحاء العالم. وقد أصبحت المدينة معروفة باسم "دار العلم" و"مدينة الاجتهاد"، وهذا كله يعود إلى بركات وجود السيدة المعصومة (س).
*الخاتمة
السيدة فاطمة المعصومة(س) أسست بوجودها في قم قاعدةً علميةً عظيمةً أثرت على تاريخ التشيع بأسره. وقد كانت هذه السيدة الجليلة، بعلمها وبركاتها، مصدر إشعاع علمي لا يزال مستمرًا منذ أكثر من اثني عشر قرنًا، مما جعل قم مركزًا عالميًا للعلم والمعرفة في العالم الإسلامي.