printlogo


printlogo


ملاحظة
الفن الملتزم: نموذج لربط الجمال، الإيمان والإنسانية
رئیس التحریر لمجلة الآفاق

علي‌رضا مکتب‌دار
 
الفن في الثقافة الإيرانية-الإسلامية كان دائمًا تجسيدًا للحقيقة، الروحانية والسعي نحو الكمال. ومن بين الفنانين المعاصرين، يلمع اسم محمود فرشجيان كالشمس في سماء الفن؛ فنان استطاع دمج التقاليد والابتكار ليمنح فن المنمنمات الإيراني وجهًا جديدًا، متجاوزًا الحدود الجغرافية. بالنسبة له، كان الرسم ليس مجرد حرفة أو ترفيه، بل عبادة؛ إذ أبدع أعماله في خدمة الدين، القيم الإسلامية وحب أهل البيت(ع). في الواقع، كان فنه لغة بصرية لمدرسة التشيع؛ لغة لا تحتاج إلى ترجمة لتؤثر في الجمهور العالمي.
محمود فرشجيان، الفنان الكبير في فن المنمنمات المعاصرة، هو أحد ألمع الشخصيات في الفن الإيراني-الإسلامي، حيث استطاع دمج التقاليد والابتكار ليصل بفن المنمنمات إلى مكانة جديدة، محولًا إياه إلى لغة عالمية لثقافة الشيعة. لم يكن يرى الرسم مجرد فن بصري، بل نوعًا من العبادة؛ عبادة تتحول فيها الألوان والخطوط إلى وسيلة للتضرع لله. من هنا، كانت أعماله مليئة بالروحانية والطابع القدسي.
الميزة الأساسية لفن فرشجيان هي التزامه بالدين والقيم الروحية. لوحات مثل عصر عاشورا، ضامن آهو[الغزال]، اليوم الخامس من الخلق ورعاية الأيتام من قبل الإمام علي تنقل حبًا نابضًا لأهل البيت(ع). عبر اختياره لمواضيع عاشورائية ومضامين قرآنية، جعل من فن المنمنمات وسيلة للتعبير عن الإيمان ومظلومية أهل البيت(ع)، وهي وسيلة استطاعت التأثير في قلوب الملايين حتى خارج الحدود الجغرافية.
 
الفن في خدمة الأماكن المقدسة
كرّس فرشجيان فنه لخدمة الأماكن المقدسة أيضًا، حيث صمم أضرحة ومواقع دينية مستوحاة من الرموز الإسلامية والشيعية. لم تكن هذه الأعمال مجرد جمال بصري، بل كانت تجسيدًا لبصيرته وحبه للإمام المعصوم. كان يرى الفن أمانة إلهية يجب تقديمها للناس والدين، ولذلك أهدى العديد من روائعه للمتاحف والأضرحة المقدسة.
جانب آخر من فنه هو الدبلوماسية الثقافية: فقد عرضت أعماله في متاحف ومعارض عالمية مرموقة، حيث نالت إعجابًا واسعًا. ومن دون الحاجة إلى خطابات سياسية، قدّم للعالم رسالة الإنسانية، العدالة والروحانية عبر لغته البصرية، مؤكدًا أن الفن يمكن أن يكون سفيرًا قويًا لثقافة إيران ومدرسة التشيع.
حياة ومسيرة فنية
وُلد محمود فرشجيان في أصفهان، مركز الفن والعمارة الإيرانية. منذ طفولته كان مفتونًا بنقوش السجاد وزخارف المساجد، مما زرع فيه حب اللون والخط. التحق في شبابه بمعهد الفنون الجميلة حيث تعلم تصميم الزخارف وفن المنمنمات على أيدي أساتذة بارزين. ثم سافر إلى أوروبا حيث زار المتاحف الكبرى، ما وسّع آفاقه وعرّفه على التقاليد البصرية الغربية.
هذا المزج بين الإرث العالمي والجذور الإسلامية-الإيرانية مكّنه من تطوير أسلوب فريد. بعد عودته إلى إيران، بدأ نشاطاته التعليمية والإدارية في مجال الفن، إلا أن أعماله كانت السبب الرئيسي في وصوله إلى القمة، مثل لوحات عصر عاشورا، اليوم الخامس من الخلق، ضامن آهو [الغزال] ورعاية الأيتام من قبل الإمام علي(ع)، التي أصبحت خالدة في ذاكرة الفن الإيراني والوجدان الجمعي للشيعة وحتى لدى الجمهور غير الإيراني.
 
الفن كعبادة
واحدة من أهم ميزات فرشجيان الفنية هي رؤيته للفن كعبادة. كان يؤكد باستمرار أن الرسم بالنسبة له نوع من التضرع لله. عندما يمسك القلم، كان يرى نفسه في حضرة الخالق، مستخدمًا الألوان وسيلة لتمجيد الله. لهذا السبب، كانت أعماله مليئة بالروحانية والطابع القدسي.
هذه النظرة الروحانیة جعلت من الرسم في يديه يتجاوز كونه فنًا بصريًا ليصبح عبادة تصويرية تؤثر في روح المبدع والمتلقي على حد سواء. ولهذا السبب، يجد المشاهد نفسه أمام لوحاته في حالة روحانية يصعب التعبير عنها بالكلمات، فلا يمكن وصفها إلا بالدموع أو الصمت.
  ميزات الفن الملتزم في أعمال فرشجيان
الفن الملتزم هو الفن الذي لا يقتصر على الجمال الظاهري، بل يحمل رسالة أخلاقية، روحية واجتماعية. وتتجلى هذه الميزات بوضوح في أعمال فرشجيان:
1.            الارتباط بالمواضيع الدينية والعاشورائية
أبرز مثال على ذلك لوحة عصر عاشورا، التي تصور مشهد عودة جواد الإمام الحسين(ع) بلا فارس. تنقل اللوحة أعمق مظلومية كربلاء دون الحاجة إلى تصوير دماء أو عنف.
2.            تجسيد حب أهل البيت(ع)
لوحات مثل ضامن آهو [الغزال] ورعاية الأيتام من قبل الإمام علي تعكس كيف يمكن للإيمان والإخلاص أن يكونا مصدر إلهام فني.
3.            دمج التقاليد والابتكار
التزم فرشجيان بقواعد المنمنمات الإيرانية من حيث الخطوط المنحنية، التكوينات الدائرية والألوان الناعمة، لكنه أضاف إليها الديناميكية، العمق والتقنيات الحديثة، مما أنتج أعمالًا أصيلة ومعاصرة في الوقت ذاته.
4.            لغة عالمية
حتى من لا يعرف الثقافة الإيرانية أو الشيعية يستطيع فهم أعمال فرشجيان. استخدامه للألوان، حركة الخطوط والأجواء الأسطورية يثير مشاعر إنسانية مشتركة لدى الجميع.
الدبلوماسية الفنية والثقافية
أحد الأبعاد المهمة لفن فرشجيان هو دوره في تعزيز الدبلوماسية الثقافية. عرضت أعماله في متاحف عالمية مهمة، ما أكسبها إعجاب الفنانين والنقاد الدوليين. أثبت فنه أن إيران ليست فقط بلدًا ذا تاريخ عريق، بل تمتلك في العصر الحديث فنانين يوفّقون بين الجذور التقليدية واللغات الحديثة.
فن بلا ضجيج، فن خالد
من السمات الأخرى لفرشجيان بعده عن الصخب الإعلامي. عاش حياته بهدوء، مكرّسًا وقته للإبداع والتعليم، مع إهداء العديد من أعماله للمتاحف والمواقع المقدسة ليبقى إرثه للأجيال القادمة.
الخاتمة
محمود فرشجيان مثال بارز للفنان الملتزم في العصر الحديث. دمج بين الإبداع الفني والرسالة الدينية، وحوّل فن المنمنمات إلى لغة عالمية. أثبت أن الفن يمكن أن يكون جسرًا بين الثقافات، وسفيرًا للإيمان، العدالة والإنسانية. إذا كان الفن مرآة لروح الأمم، فإن أعمال فرشجيان هي مرآة تعكس روح إيران ومدرسة التشيع، مقدمة رسالة حب وإيمان وإنسانية إلى العالم.