printlogo


printlogo


حوار
المساوئ المعرفية واللاهوتية للفضاء السيبراني، في حوارٍ مع علي‌رضا قائمي‌نیا

 تعریب الآفاق: إنَّ التأمّلاتِ النظريّة حول الفضاء السيبراني، والسعيَ لتوفير أرضيّة معرفيّة للتعمّق وإعادة التفكير فيه، على الرغم من أهميّتها وضرورتها البالغة، لم تحظَ حتّى الآن بالاهتمام الكافي من قبل علمائنا ومفكّرينا، والمؤلّفاتُ في هذا المجال نادرةٌ جداً، بل تكاد تكون مفقودة، وإن وُجدت فهي قليلةٌ وضئیلةٌ جدا، لدرجة تجعلها کالمعدوم حسب المثَل القائل "النادر كالمعدوم". 
وفي هذا السياق، يبرزُ كتاب "لاهوت الفضاء السيبراني" تأليف حجّة الإسلام "علي‌رضا قائمي‌نيا"، الأستاذ المشارك في قسمِ نظرية المعرفة بمركز أبحاث الثقافة والفكر الإسلامي، بوصفه عملاً متميّزاً وفريداً في ميدان الدراسات المعرفيّة المرتبطة بالفضاء السيبراني. فقد نجح قائمي‌نيا في هذا الكتاب، من خلال التحليلات الفلسفية والكلامية والمعرفيّة لآراء المفكّرين المسلمين والفلاسفة الغربيين، وتوضيح ماهية هذا الفضاء وحقيقته، في رصد أبرز الإشكالات الدينية واللاهوتية المتعلّقة به، مقدّماً حلولاً مناسبةً لكلّ مسألة بحسب طبيعتها.
 
 أية حاجة معرفیة ملحة سیلبّیها کتابُ "لاهوت السيبر" ؟ وما هي النتائج العملية المحددة التي تتوقَّع أن يؤدي إلیها هذا الکتاب؟ ومبدئیا هل توقُّع نتائج عملية من عمل نظري ومعرفي هو توقُّعٌ صحیح في محلّه؟
"لاهوت السايبر"، كما يُوحي اسمه، يتناول القضايا اللاهوتية والكلامية المرتبطة بالفضاء السيبراني أو الفضاء الافتراضي. إن الفضاء السيبراني له أهمية كبيرة لعصرنا ولأنفسنا، لأننا الآن بشکل أو آخر، نعيش في العالم السيبراني، والعالم السيبراني يشكّل عالمنا المعيشي. إن ذلك العالم الذي نعيش فيه ونتفاعل ونتحدث ونتواصل، هو -بصورة أو بأخرى- تحت سيطرة الفضاء السيبراني. هذا الفضاء قد غطّى جميع أبعاد حياة الإنسان المعاصر، ونحن ننظم جميع شؤوننا العلمية والاقتصادية والتجارية والاتصالية في هذا الفضاء الذي یتسع نطاقه يومًا بعد يوم.
ومن الطبيعي أن لهذا الفضاء مزايا ومساوئ. فمن مزایاه، السرعة في إنجاز الأعمال، والاتصال الأسهل الذي نوفره عبر هذا الفضاء مع أولئك الموجودين في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، إلخ. كل هذه أمور لم تكن متاحة في العالم القديم إطلاقًا، أو لم تكن تُنجز بهذه السهولة. ومن إحدى الخصائص المهمة للسيبر هي التحول الديمقراطي للمعلومات، أي أن المعلومات أصبحت عامة ومتاحة للجميع. هذه نقطة مهمة، لكنّ لهذا الفضاء مساوئَه أيضًا، وقد حاولت أن أصنّف -إلى حد ما- المساوئ المترتبة على هذا الفضاء، خاصة المساوئ المعرفية والدينية، وأن أقترح بعض الحلول أيضًا.
ومن الطبيعي أن تكون أهم سمة معرفية للفضاء السيبراني هي استبدال المعلومات بالمعرفة. "المعرفة" هي اعتقاد صادق مُبرَّر، أما من الناحية المعرفية، ففي الفضاء السيبراني لا نتعامل مع شيء يُسمى اعتقادًا صادقًا مُبرَّرا، بل نحن نتعامل فقط مع معلومات ومعطيات ذات دلالة، وقد لا تتوفر لنا الفرصة أصلًا لفحص صدقها أو كذبها، لأن تدفق المعلومات في الفضاء السيبراني قوي للغاية. فنلاحظ أحيانًا وجود شلالات معلوماتية، وسيلاً مفاجِئا من المعلومات لا يمكننا مقاومته على الإطلاق. ومثال على ذلك الشائعات التي تنتشر بين الحين والآخر في المجتمع، وحالما تنتشر، لا يمكن مواجهتها إلا بعد مرور الوقت. نحن لدينا تدفقات معلوماتية وبيانات ضخمة وشلالات معلوماتية لا يمكن التفاعل معها معرفيًا. لذلك، فإن مشكلة رئيسية تظهر هي: أن الشخص الذي يعيش في هذا الفضاء، بأي معاییر وقواعد یستطیع أن يقيّم هذه المعلومات؟
ومن ناحية أخرى، فإن هذا الفضاء یتمتع بجاذبية جمالية عالية، لأنه یخلو من الألم والمعاناة اللذين نجدهما في الحياة اليومية. لكن في الوقت نفسه، یسلب الإنسانَ أوقاتَ الفراغ أيضًا، ومن الطبيعي أن الاستخدام الأقصى لهذا الفضاء يخلق مشاكل كثيرة للإنسان، من أهمها أن الإنسان المنغمس في هذا الفضاء لا يستطيع أن ینفذ أعماله الضرورية، و یتغیر لدیه معنى الحياة، وهذا بحد ذاته مشکلة خطیرة وواسعة النطاق للغاية. ومن هنا طُرحت فكرة "الحدّانية الرقمية" من بعض المفکرین، والتي تشير إلى الاستخدام الأدنى للتكنولوجيا والفضاء الافتراضي والأدوات الرقمية. وبالتالي فإن مشكلة العبثية وانعدام المعنى في الفضاء الافتراضي خطر جسیم قد نما بین الشباب في معظم البلدان، بما في ذلك بلدنا.
 
 ظاهرة استبدال المعلومات بالمعرفة، التي نشهدها في الفضاء السیبراني، بأية آلیة تؤدي إلى العبثية وانعدام المعنى في الحياة؟
لاحظوا! هذه المسألة لها أسباب متعددة قد بحثتها في کتابي. وبالاختصار فإن لهذا الأمر أسبابًا فلسفية وأسبابًا عملية. ومن بين أسبابه الفلسفية والنظرية: أولاً احتلال المعلومات مكان المعرفة، وثانيًا: أن الانشغال بالبيانات الضخمة يؤدي إلى سلب الإرادة الإنسانية.
تخيل أنك تقرأ نصًا ما، وأثناء ذلك تصل رسالة في إحدى هذه الشبكات لا علاقة لها إطلاقا بما تقرأه، لكنك تتابعها، ثم تأتي رسائل أخرى فتتابعها، وهكذا تدخل في تسلسل لا نهائي في الفضاء السیبراني لا علاقة له بما کنت تقرأه أصلاً، وإنما يضيع وقتك ويحوّل انتباهك إلى أمور أخرى. هذه المسألة نفسها لها تبعات فلسفية وجودية عميقة يجب المکوث عندها.
بشكل عام، فإن حصول التعلُّق الوجودي بالفضاء السیبراني يمثل مشكلة خطيرة للإنسان المعاصر، وقد وجدت تبعات هذا التعلق الوجودي طريقها إلى سائر المجالات الحيوية للإنسان. لقد استلهمتُ هذا المصطلح من فلسفتنا الإسلامية التي تقول: "المعلول بالنسبة إلى علَّته فقر تماما" لأن العلَّة هي التي أوجدت المعلول. وهذه النسبة موجودة في المجتمع المعاصر بين الإنسان الحديث والفضاء السیبراني، فأصبح الإنسان لا يستطيع العيش بدون الفضاء الافتراضي، وتعلق به تعلقا وجوديا كاملا.
 
في الحقيقة، فإن العلاقة بين العلة والمعلول في الفضاء السیبراني قد تغيرت، وفقد الإنسان دوره الفاعلي في هذا الفضاء وأصبح بشکل أو آخر منقادًا وخاضعًا له.
نعم، لقد تغيرت العلاقة تمامًا، وظهرت للإنسان حالة من القبول والانفعال البحت تجاه هذا الفضاء. وهذه التعلقات تخلق مشاكل، أحد أبرزها فقدان الإنسان لقدرته النقدية؛ لأنه من الطبيعي أن الشخص الذي يسبح في فضاء البيانات الضخمة لا يملك الفرصة لتقييم هذه المعلومات، ولا يمتلك أدوات ذلك أيضًا؛ تمامًا کما لو توضع جميع المعلومات، حتى المعلومات المتخصصة، بلغة مبسطة بين يدي الجميع، وهذه مشكلة.
والمشكلة الأخرى هي أن الفضاء السیبراني أدخل الإنسان في كتلة أكبر من الناس؛ فقبل ظهور الفضاء السیبراني، كان یتواصل في دائرة ضیقة مع أصدقاءه وعائلته وزملاءه، ولكن الآن عندما بدخل الفضاء السیبراني، یتفاعل مع جميع المتواجدين على الإنترنت، ما يضعه في تعامل مع كتلة أكبر تسلب الأصالة من حياته، لأنه لا یستطيع التواصل مع الذوات الحقیقیة لکل أولئك الذین یتواجدون في عالم الواقع.
هذه مشاكل خطيرة أحدثها في الحقیقة هذا الفضاء للإنسان، ومن الطبيعي أن تواجه المفاهيم الدينية أيضًا مشاكل تحت سيطرة هذا الوضع. فمفاهيم مثل "الذات"، "الله"، إلخ... كلها تتعرض للتغيير. لقد عالجتُ هذه القضايا في كتابي بشكل مستوف، كما تطرقت أيضًا إلى المفاهيم التي تُطرح تحت عناوين مثل "الإله الرقمي" و"الروح الرقمية".
أضف إلی ذلك أنك في الفضاء السیبراني لا يمكنك أن تتبع المنطق تمامًا، لأن الدخول إلى هذا الفضاء يشبه تمامًا الانضمام إلى مجموعة يقول فیها كل شخص شيئًا ما، ولا تتاح لك فرصة تقییم الأقوال والاستدلال علی صحتها أو خطأها، وبالتالي فإن الإيمان الذي يتکون في الفضاء السیبراني هو من نوع جديد أطلقتُ عليه اسم "الإيمان الرقمي"، وهو إيمان لا يمكن أن يكون قائمًا على العقل، بل هو علی الأغلب قائم على الميل والنزعة. لا أدعي أن النقاشات المتخصصة لا تحدث في هذا الفضاء، لأنه من الطبيعي أن تحدث أحيانًا مناقشات متخصصة حول الإيمان والتديّن في الفضاء السیبراني أيضًا، لكنك ترى أحيانًا كيف أن شخصًا ما فجأة يغير نظام معتقداته بالكامل بسبب إشاعة ما تتعلق بالدين أو بالمفاهيم والشخصيات الدينية.
یتابع
المصدر: وکالة تسنیم