□ مقالة/ الحلقة الأخیرة
الحاجة إلى الدين في علم الكلام الجديد
تحدثنا في المقالتين السابقتين حول اثر الدين في الحياة وكان الاول عن علم الكلام القديم ثم الثاني عن علم الكلام الجديد وقلنا انه قد تناول القضية من زاويتين،الزاوية الاولى اثره من ناحية روحية فردية،والزاوية الثانية اثره في الحياة الاجتماعية،ومقالتنا هذه تتحدث عن هذه الزاوية بالاساس بعدما تحدثنا عن الاولى في مقال منشور سابقا
وفي بداية الامر ترتبط هذه القضية في مسالة يعالجها علم الكلام الجديد وهذه القضية تسمى (مديات الدين) او تسمى توقعات الانسان من الدين او حدود النص الديني، فهل الدين بالاساس جاء لاجل جميع هذه القضايا اي لحل جميع المشاكل الانسانية،ام لحل بعضها، فالبعض يرى ان الدين يمتد فقط للقضايا الروحية (اضفاء معنى للحياة) وهذا ما تكفلته المقالة الاولى،والبعض الاخر يرى القضية اوسع من ذلك، وهؤلاء ايضا اقسام، ونحن بالتالي نختار ان الدين جاء ليعالج قضايا متعددة في الحياة الانسانية منها القضية الاجتماعية من دون اغفال تطور العقل الانساني والتجارب الانسانية والعلوم الانسانية في هذا المجال،من قبيل علم النفس وعلم الاجتماع والتربية وغيرها من العلوم التي تبحث عن حل للقضايا الانسانية، ونحن ندعو للتكامل بين الاتجاهات المختلفة بعيدا عن القطيعة بالتالي ايجاد حلول صحيحة واقعية لحل المعضلة الانسانية، تمتزج فيها الرؤية الدينية الصحيحة والفلسفة والعلم .
▪ ماهو اثر الدين في الحياة الاجتماعية كما يراها علم الكلام الجديد؟
وسنعددها عبر نقاط:
اولا:تحقيق الوحدة والتضامن
في هذا المجال توجد لدينا رؤيتان متقاطعتان:
الرؤية الاولى: ترى ان الدين القائم على التوحيد يؤدي الى القطيعة وعدم التشارك ويؤدي بالتالي الى الحروب والاقصاء والاضطهاد تحت دعوى الهرطقة وامتلاك الحقيقة،ولهذه الرؤية اتباع منهم الفيلسوف (ديفيد هيوم)
الرؤية الثانية:ترى عكس ذلك بل تعتقد ان الدين بما يمتلك من رؤى واخلاق وتعاليم عامل اساسي للوحدة والتضامن اذ يرجع الناس الى رب واله واحد والخلل هو في نفس الانسان اذ يفسر الدين بما ينسجم مع القطيعة وليس الخلل في نفس الدين، ومن اصحاب هذه الرؤية الفيلسوف ويل ديورانت اذ يقول ( لما كان التفاوت الطبيعي بين الناس يقضي بان يكون بعضهم محروما ومحكوما عليه بالفقر والعوز، كانت الحاجة الانسانية ماسة الى علاج من خارج حدود الطبيعة،للتخفيف من اليأس ووطأة الحرمان،ولولا الامل المشرق غير الطبيعي،لكانت الصراعات الطبقية احرقت الاخضر واليابس.)
▪ اساليب الدين للوحدة والتضامن
بيان اصل الانسان وانه راجع الى رب واحد وان الانسان اصله من تراب قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ]. هذا الاصل يجعل الانسان ينظر الى اخيه الانسان بتواضع وليس بطبقية كما ورد عن النبي محمد(ص) (كلكم لادم وادم خلق من تراب). وهذا الكلام قاله في خطبة الوداع اي اخر التعاليم النبوية التي تحث على الوحدة الانسانية، ولاشك ان هذه النظرة تورث التواضع وهو اساس التعاون الانساني .
نبذ التعالي والقومية والتعصب وارجاع الفضائل الانسانية على اساس التقوى (يا ايها الناس انا خلقناكم من كر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم)
فالخلقة والتنوع الانساني لاجل التعارف واساس المفاضلة عند الله هي ( التقوى) وهي قضية تنال بالتربية والتكامل ولاتعطى مباشرة مثل الجنس والنوع واللون .
اقرار التعددية الدينية والانسانية كما ورد عن امير المؤمنين عليه السلام في وصيته لمالك الاشتر حينما ولاه مصر ( الناس صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق.
وهناك اساليب اخرى مثل تحريم الغيبة والنميمة والفاحشة والدعوة الى العمل الصالح ودعوة اهل الكتاب الى كلمة سواء، والدعوة الى السلم والتعاون مما يقلل من المشاكل الاجتماعية ويجعل المجتمع متضامنا في ما بين افراده وان اختلفوا .
ثانيا:تأمين القسط والعدالة
يقول الله تعالى عن هدف بعثة الانبياء وفلسفة التشريع الالهي ما نصه ( لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
وقد اعتبر العدلية ان العدل اصل من اصول الدين تقوم عليه باقي التفريعات كباقي الاصول مثل التوحيد والنبوة، وان الله خلق كل الاشياء بالقسط فهناك عدل تكويني,وعدل تشريعي،وعدل جزائي, الاول يشير الى استقرار الكون، والثاني الى استقرار الانسان حيث لم يكلف الله نفسا الا وسعها،والثالث ايضا يجعل الانسان مطمئنا لان الله جعل الجزاء على قاعدة اساسية وهي ( ولاتزر وازرة وزر اخرى).
ثالثا:ضمان النشاط والحيوية
يرى البعض ان الدين عامل تخدير للانسان وسبب من اسباب الخضوع وعدم الحركة وقد انتشرت كلمة ماركس ( الدين افيون الشعوب) ومع الاسف يرددها من لادراية له في الفكر الديني، وفي التاريخ الديني،وكيف لعبت الاديان ولازالت دورا اساسيا في الحركة الانسانية،نعم لاشك ان هناك تفسيرا دينيا مغلوطا لكن هذا لا يتحمله الدين بما هو دين بل تلك النظرة القاصرة للبعض، كبعض التفسيرات العقائدية المرتبطة بالحرية الانسانية والقضاء والقدر، اننا نجد ان الدين يقول ان الانسان مخير ما بين الخير والشر وعليه ان يختار طريق الخير.
يقول حسن يوسفيان ( ومثل هذا التفسير الماركسي للدين ربما يتناسب مع بعض الاديان او المذاهب،ولكنه لايتناسب باي شكل من الاشكال مع عقيدة الامر بين الامرين، في تفسير القضاء والقدر،فبحسب النظرة التي يدعو اليها الائمة المعصومون لايحق للانسان ان يضع يدا على يد ويجلس منتظرا مصيره،بحجة التسليم بالقضاء والخضوع للارادة الالهية وما اجمل درس الامام علي(ع) الذي اعطاه لاصحابه المحيطين به وللبشرية كلها لما عوتب على انتقاله من جدار يريد ان ينقض الى غيره بحجة انه يفر من قضاء الله فقال(افر من قضاء الله الى قدر الله غزوجل)؛ بل اننا نجد ان القران الكريم يسمي الحياة الانسانية انها كدحا نحو الله تعالى [يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه]، بل طلب الدين من الانسان ان يعمرالارض. فهل اعمار الارض من الانسان يجعله كسولا ام يستنهضه ويفجر طاقاته؟ بل الانسان هو خليفة الله في الارض والخليفة يمثل المستخلف في صفاته واسمائه الحسنى. بالتالي هو يمثل الله الخلاق المبدع وهذه يجعله يمثل الابداع في الارض؛ لذا حث الدين الانسان على العمل الصالح واعمار الارض وجعله نشيطا في حياته لانه قد ايقن ان ورائه ربا يجازيه. فدعوى ان الدين يجعل الانسان خانعا، دعوة ليست صحيحة ابدا وخالية من الدليل بل الدليل على عكسها.
رابعا: دعم الفضائل الاخلاقية:
الالتزام بالقضايا الاخلاقية قد يكلف الانسان كثيرا، ويتطلب منه جهدا كبيرا لذلك اطلق عليه اسم (الجهاد الاكبر) في قبال جهاد العدو الجهاد الاصغر، بالتالي يحتاج دعما قويا داخليا،والدين يمثل هذه الدعامة الكبيرة للاخلاق لانه يجعلها ترتبط بالله وبقانون الثواب والعقاب فيبتعد بها عن المجازفة بل يكون الانسان مثابا عليها، بل اس الدين والقرب من الله هي الاخلاق بل هي هدف بعثة النبي الخاتم(ص) بل ان اقرب الناس الى رسولالله(ص) يوم القيامة احسنهم اخلاقا.
يقول الشيخ جعفر سبحاني: ان العقائد الدينية تعد رصيدا للاصول الاخلاقية, اذ التقيد بالقيم ورعايتها لاينفك عن مصائب والام يصعب على الانسان تحملها الا بعامل روحي يسهلها ويزيل صعوبتها، وهذا كالتضحية في سبيل الحق والعدل، ورعاية الامانة ومساعدة المستضعفين، فهذه بعض الاصول الاخلاقية التي لا تنكر صحتها، غير ان تجسيدها في المجتمع يستتبع الاما وصعوبات، والاعتقاد بالله سبحانه وما في العمل بها من الاجر والثواب خير عامل لتشويق الانسان على اجرائها وتحمل المصائب والآلام.
وما يستحق الوقوف عنده هو ان كثيرا من السجايا الاخلاقية لايمكن تبريرها الا في ضوء الايمان بالله والحياة بعد الموت وعلى حد تعبير الشيخ مرتضى مطهري(رح): ليس للانسان الا احد خيارين:اما ان يكون انانيا ونفعيا ولا يقبل باي حرمان من اي شيء، واما ان يكون مؤمنا بالله يقبل ببعض الحرمان لاسباب اخلاقية تدعوه الى عدم تسميته حرمانا، او على الاقل حتى لو سماه حرمانا لكنه يرى ان الله يجبر ذلك .والانسانية والعفو والاحسان وغيرها من الفضائل المشابهة تواجه تهديدا جديا اذا لم تدعمها التقوى وطلب رضا الله.
وهنا نشير الى قضية ان الدين داعم للاخلاق وهي تعتمد على القوانين الفطرية العقلية في الانسان (العقل العملي) وله دور كبير فيها في قبال من انكر اي دور للدين في الاخلاق، او من قال ان الاخلاق كلها دينية, ولعل قول النبي(ص) يشير الى ذلك ( بعثت لاتمم مكارم الاخلاق) فمهمة الدين مهمة تكميلية تتميمية، لاننا نجد ان الاخلاق ظاهرة انسانية عامة تعتمد على التحسين والتقبيح العقليين، والدين يكون سندا وركيزة كبيرة لها، فيتعاضد العقل والفطرة والدين في خلق الانسان الكامل .
خامسا: بناء المجتمع السليم:
المجتمع السليم هو احد متطلبات الانسان واشدها اصالة, وتحقق هذا الامر المهم يتوقف على امور؛ منها: -التوجه نحو الاهداف والمثل والمعايير الكمالية والانسانية الباعثة على التطور.
-وجود قوانين شاملة ودقيقة وعادلة.
-رعاية العدالة بشكل عملي، وتطبيق القوانين والابتعاد عن الشخصنة،واقتناع الشخص بحقوقه وحقوق الاخرين.
-الالتزام بالعهود والمواثيق
-الانسجام الاجتماعي والثقة المتبادلة.
والدين في جميع هذه الابعاد له دخالة كبيرة حيث يوفر الاهداف العليا وله قوانين شاملة ويحترم المواثيق والعهود بالتالي طريق كبير لاجل خلق المجتمع السليم.
هذه بعض القضايا التي تحدث عنها علم الكلام الجديد في القضية الاجتماعية واثر الدين فيها والا هناك قضايا اخرى بل القضية اوسع وتحتاج كتابا مستقلا في ذلك. وبذلك ننتهي من هذا البحث اردنا من خلاله مقاربة اثر الدين بين علم الكلام القديم والجديد وفي الحقيقة هما يتقاربان كثيرا نعم علم الكلام الجديد عنون المسألة وبحثها مفصلا بينما اكتفى كما قلنا علم الكلام القديم في البحث عن هذه المسألة ببحث فرعي تابع للنبوة،بينما جعله علم الكلام المعاصر من موضوعاته الاساسية .
المصدر:مركز الامام الصادق للدراسات التخصصية