عندما تتخلّص النفس البخيلة من بخلها وشحّها عن طريق تدريبها العمليّ المستمرّ على البذل والإنفاق، وعندما تعالَج النفس المفرطة في شهواتها بأساليب العفّة والقدرة على ضبط الشهوة والتحكّم فيها، وعندما يكبح المربّي المسلم نزعاته الأنانيّة بصفات الإيثار والتنكّر للذات، فإنّ ذلك كلّه يندرج تحت مفهوم التربية العباديّة بطريقة أضداد السلوك. وفي هذا المقال، بحثٌ حول منهج الإمام زين العابدين(ع) في التربية السلوكيّة بطريقة الأضداد والمقابلة بين الأفعال.
*أهداف التربية العباديَّة بطريقة أضداد السلوك
اشتهرت هذه الطريقة عند علماء الأخلاق، والصوفيّة، وبعض علماء النفس المعاصرين، كما في طريقة الكفّ بالنقيض أو الكفّ المتبادل لدى بعض السلوكيّين، وبالتحديد عند جوزيف وولبي. بيد أنَّ الإسلام أضفى طابعه العباديّ لتحقيق أهدافه في حقل العبادة والصحّة النفسيّة والعقليّة، فطريقة الأضداد ومقابلة أفعال السلوك لها جذورها في أدعية الإمام زين العابدين(ع) كدعاء مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال، وبها يسعى العبد بالدعاء وبأساليب أخرى إلى تحقيق هدفين، هما:
1- سعي الفرد المؤمن منذ بدء سنوات تكليفه الشرعيّ إلى الوصول الرشيد لرضى الله سبحانه عنه كعبد مؤمن، وضمان مستقبل آمن في اليوم الآخر.
2- تحقيق توافق نفسيّ وتكيّف اجتماعيّ إيجابيّ للفرد المؤمن، وتحقيق تعديل مستمرّ في سلوكه وفكره ومشاعره ونظرته إلى الحياة، بما يحقّق له راحة بال، وطمأنينة نفس، وقدراً طبيعيّاً من الأمن النفسيّ والرضى الداخليّ عن نفسه، وفي محيط علاقاته بمن حوله.
*نماذج من أدعية الإمام زين العابدين(ع)
زخر دعاء مكارم الأخلاق بنماذج (أضداد السلوك)، وسنكتفي بصيغ ثلاث منها، ونترك للقارئ الكريم التوسّع، فنصّ الدعاء مليء بحالات متقابلة من الأفعال وأضداد السلوك:
- الأسلوب الأوّل: أَبْدِلْنِي
قال الإمام زين العابدين(ع): اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وأَبْدِلْنِي مِنْ بِغْضَةِ أَهْلِ الشَّنَآنِ (الْمَحَبَّةَ)، ومِنْ حَسَدِ أَهْلِ الْبَغْيِ (الْمَوَدَّةَ)، ومِنْ ظِنَّةِ أَهْلِ الصَّلاحِ (الثِّقَةَ)، ومِنْ عَدَاوَةِ الأَدْنَيْنَ (الْوَلايَةَ)، ومِنْ عُقُوقِ ذَوِي الأَرْحَامِ (الْمَبَرَّةَ)، ومِنْ خِذْلانِ الأَقْرَبِينَ (النُّصْرَةَ)، ومِنْ حُبِّ الْمُدَارِينَ (تَصْحِيحَ الْمِقَةِ)، ومِنْ رَدِّ الْمُلابِسِينَ كَرَمَ (الْعِشْرَةِ)، ومِنْ مَرَارَةِ خَوْفِ الظَّالِمِينَ (حَلاوَةَ الأَمَنَةِ).
يتضمَّن هذا المقطع من الدعاء بعض الدلالات، منها:
1- ركّز على خصائص السلوك الأخلاقيّ بشقّه السويّ (الفضائل)، وما قابله من سمات غير سويّة، ونماذج السلوك السيّئ (الرذائل).
2- كان عدد الرذائل تسعاً، ومثلها من الفضائل والسلوك الإيمانيّ.
3- المقابلة السلوكيّة في كلمات الإمام زين العابدين(ع) بمثابة حركة تعبيريّة مزدوجة، عن علاقة إيمانيّة بين العبد وربّه، تمثّلت في حركتين: الأولى: حركة صاعدة من العبد تُجاه الله الأعلى، والثانية: حركة هابطة من الله سبحانه تُجاه عبده الراغب في طاعته، واستهدفت تلبية طلب عبده ورغبته، والحركتان تضفيان على الفعل الإنسانيّ طابعاً إيمانيّاً.
4- أشار إلى ثلاثة عناصر متفاعلة تمثّل أطراف الدعاء، وهي:
أ- الله سبحانه (خالق العباد وربّهم)، يستقبل دعوات الناس ويجيب طلباتهم، وينعم عليهم بخيره.
ب- عبد ضعيف راغب في عون الله وحمايته ونصرته.
ج- نصّ يتضمّن محتوى طلب استبدال رذائل السلوك مقابل فضائل السلوك العباديّ الإيمانيّ.
5- يُلحظ في النواتج السيّئة للرذائل، مقابلة نواتج حسنة للفضائل، فالإمام زين العابدين(ع) كعبد مؤمن أراد من ربّه استبدال خصائص سلوك طيّبة، وهي: المحبّة والمودّة، والثقة والولاية، والمبَرَّة، والنصرة وتصحيح المقة، وكرم العشرة، وحلاوة الأمنة، بالبغضاء، والحسد، والظنّ، والعداوة، وعقوق ذوي الأرحام، وخذلان الأقربين، وحبّ المدارين، وردّ الملابسين، ومرارة خوف الظالمين، وجميعها خصال سيّئة، وهذا نموذج للمقابلة بين نواتج الأفعال.
- الأسلوب الثاني: واجْعَلْ لِي... وحَلِّنِي
تركّز هذه الصيغة على تقابل نموذجين من السلوك المضادّ لبعضه بعضاً، بين دفع سلوك سيّئ عن النفس؛ أي تجنّب الشرّ، ومقطع آخر بالرغبة في طلب السلوك العباديّ وحبّه وعشقه، والتلذّذ الفعليّ الممتع بنواتجه النفسيّة في عالم النفس، وداخلها وحركتها الاجتماعيّة. وسيرى القارئ الكريم نوعين من التعزيز: الأوّل سلبيّ يُبعد النفس عن النار، والثاني فيه ميل للذّة التي تجلب النفس وصاحبها إلى الجنّة. وهو نوع من التقابل في أفعال الدنيا ونواتج الجزاء المأمول في الآخرة. ويتضمّن المقطعان طلباً برغبة الإمام(ع) في تعزيز علاقاته بربّه ونفسه والناس، وهي صيغة تنتشر في نصّ دعاء مكارم الأخلاق.
وفي نصّ الدعاء قال(ع): اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، واجْعَلْ لِي يَداً عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، ولِسَاناً عَلَى مَنْ خَاصَمَنِي، وظَفَراً بِمَنْ عَانَدَنِي، وهَبْ لِي مَكْراً عَلَى مَنْ كَايَدَنِي، وقُدْرَةً عَلَى مَنِ اضْطَهَدَنِي، وتَكْذِيباً لِمَنْ قَصَبَنِي، وسَلامَةً مِمَّنْ تَوَعَّدَنِي، ووَفِّقْنِي لِطَاعَةِ مَنْ سَدَّدَنِي، ومُتَابَعَةِ مَنْ أَرْشَدَنِي. ويستفاد من كلمات هذا المقطع رغبة النفس في دفع الضرر عنها، وتجنّب أذاها.
ثمّة مقطعٌ آخر من الدعاء، قال فيه الإمام زين العابدين(ع) ما يؤكّد على طلب الخصال الكريمة: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، وحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ، وأَلْبِسْنِي زِينَةَ الْمُتَّقِينَ، فِي بَسْطِ الْعَدْلِ، وكَظْمِ الغَيْظِ، وإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ، وضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ، وإِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وإِفْشَاءِ الْعَارِفَةِ، وسَتْرِ الْعَائِبَةِ، ولِينِ الْعَرِيكَةِ، وخَفْضِ الْجَنَاحِ، وحُسْنِ السِّيرَةِ، وسُكُونِ الرِّيحِ، وطِيبِ الْمُخَالَقَةِ، والسَّبْقِ إِلَى الْفَضِيلَةِ، وإِيثَارِ التَّفَضُّلِ، وتَرْكِ التَّعْيِيرِ، والإِفْضَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ، والْقَوْلِ بِالْحَقِّ وإِنْ عَزَّ، واسْتِقْلَالِ الْخَيْرِ وإِنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلِي وفِعْلِي، واسْتِكْثَارِ الشَّرِّ وإِنْ قَلَّ مِنْ قَوْلِي وفِعْلِي، وأَكْمِلْ ذَلِكَ لِي بِدَوَامِ الطَّاعَةِ، ولُزُومِ الْجَمَاعَةِ، ورَفْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ، ومُسْتَعْمِلِ الرَّأْيِ الْمُخْتَرَعِ.
وقد تكوَّن هذا المقطع من شقّين، هما:
1- طلب البحث عن الخصال الطيّبة، ويشير فيه النصّ إلى عمليّة تعزيز سلوكيّ بقيم الحقّ والفضائل، ونموّ الذات بطابع عباديّ سليم، حيث شمل جوانب متعدّدة إلى حدّ ما من شخصيّة الفرد المؤمن، كالجانب الروحيّ والأخلاقيّ والوجدانيّ، والتكيّف في العلاقات الاجتماعيّة مع الآخر، وضبط اللسان وتعديله بما يتّفق وقول الحقّ.
2- الشقّ الآخر من هذا المقطع حاول فيه الإمام زين العابدين(ع) دفع المؤمنين نحو تجنّب طبائع السوء، مثل ترك تعيير الناس، وترك الإفضال على غير المستحقّ. وتستبطن كلماته(ع) التكيّف مع بعض الصفات الشريرة؛ لذلك دعا إلى ترك التعيير وإفضال النفس وتكبّرها على الغير؛ أي كفّ النفس عن التفاعل مع السلوك الشرير.
- الأسلوب الثالث: دفع السيّئ بالحسن
وفيها قابل الإمام(ع) في كلمات هذا المقطع بين أفعال سوء بأفعال حسنة، وكان دائماً يبدأ بنقد السلوك السيّئ، ثمّ يعرض السلوك العباديّ المرغوب فيه. وتداخلت كلماته في اتّجاه واحد يتبنّى فيه الإمام(ع) معالجة السلوك غير السويّ في الآخر، لا في النفس فحسب، بما أمر الله من عادات السلوك الحسن. وهذا ملحوظ على نطاق واسع في التركيبة اللفظيّة لنصّ الدعاء كلّه ومحتواه المعرفيّ.
قال(ع): اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، وسَدِّدْنِي لأَنْ أُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ، وأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ، وأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وأُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إِلَى حُسْنِ الذِّكْرِ، وأَنْ أَشْكُرَ الْحَسَنَةَ، وأُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ.
*النواتج السيكولوجيّة الإيجابيّة
لكلّ فعل نتائجه، خيّرة كانت أو شريرة، ولا تتحقّق النتائج بطابع إيجابيّ إلّا بوجود شروطها، كوجود منهج عمل سليم يرجّح دائماً غلبة الفضائل وترسيخها، ويساعد على قهر زوائد الشهوات والسيطرة عليها بالرشد وحكمة العقل، والمعرفة الشرعيّة والقيميّة والأخلاقيّة والوعي العباديّ الاجتماعيّ.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الانضباط على قواعد طريقة التربية بالأضداد، كما أوضحت نصوص الإمام زين العابدين(ع)، يصبّ في تحقيق:
1- الهدفين الأساسيّين السابقَين لعمليّة تربية النفس بطريقة الأضداد.
2- بروز نواتج التربية بالأضداد في أنماط مؤتمنة من العلاقات السليمة مع الله ومع الآخر ومع النفس ومع عالم الأشياء أيضاً.
3- تحقيق درجة من النضج، تؤدّي إلى توفّر قدر معقول من الصحّة النفسيّة.
4- زيادة ملحوظة في قدرات الأفراد بمجالات النموّ الروحيّ، وزيادة ثروتهم اللغويّة واللفظيّة، وبناء إيجابيّ لمشاعرهم الوجدانيّة، ونموّ منطقيّ للعلاقات الإنسانيّة النبيلة، والتكيّف السويّ مع الآخر. وهذا ما حدّدته بعض المعاني العقليّة والسيكولوجيّة في التركيبة اللفظيّة لنصوص الإمام زين العابدين(ع) المستفادة من نصّ دعاء مكارم الأخلاق.
*رصيدٌ للدنيا والآخرة
وهكذا، فإنّ تراث الإمام زين العابدين(ع) من الأدعية، وخصوصاً في الصحيفة السجاديّة، يمثّل طريقة فعّالة في التربية العباديّة الصالحة للإنسان، دنيويّاً وأخروياً. وكان غيضاً من فيضٍ.
المصدر: مجلة بقیة الله عج الله تعالی فرجه