
مقالة
التعدّديّة الدينية في المنظور الإسلاميّ
الشيخ غازي عبدالحسن السمّاك الجزء الثاني والأخیر
القراءات الثلاث للتعدّديّة الدِّينيّة التَّعدُّديّة الدِّينيّة تحمل تفسيرات وقراءات متعدّدة، وما لم نتناولها واحدة واحدة لا يمکننا أن نحکم لها أو ضدها.
1ـ التَّعدُّديّة الدِّينيّة السلوکيّة:
وتعني أنَّ جميع أتباع الأديان (حسب تعبير المنظّرين) أو الشرائع (في ضوء تعبيرنا)، قادرون على العيش بعضهم إلى البعض الآخر علی أساس المشترکات، وأن يتحمَّل أحدهم الآخر.
ونحن لا ننکر وجود المشترکات بين الشرائع الکبری (اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام) کما أنَّ هناك اختلافاً بينها.
إنَّ التَّعدُّدية بهذه القراءة يقبلها العقل والدِّين والشَّريعة، وقد دعا القرآن الکريم أهل الکتاب إلى حياة مسالمة تحت خيمة التَّوحيد، لأنَّه أصلٌ مشترك بين جميع الشرائع السماوية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آلعمران/64).
والاعتراف بحقوق أهل الکتاب لا يعني الجزم بفوزهم ونجاتهم؛ لأنَّ القضيّة مرتبطة بسلوك اجتماعيّ في الحياة الدِّينيّة حفاظاً علی الکرامة الإنسانيّة، وقد اعترف الفقه الإسلاميّ (الذي يرتکز علی الکتاب والسنّة) بأهل الکتاب ودعا إلى احترام حقوقهم بما لا مزيد عليه، ففي کتب الفقه فصل خاص عن أهل الذمّة وشروطها، وهو يعکس مدى تعاطف الإسلام مع هذه الشرائع الاجتماعيّة.
وهنا نذكر مثالاً: عندما کان الإمام علي يتجوَّل في شوارع المدينة رأى رجلاً أعمی يستعطي النَّاس، فسأل ما هذا؟ فقيل: رجل نصرانيّ، فأجاب الإمام: "استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! انفقوا عليه من بيت المال".
وهو الذي قال بأنَّ النَّاس "صنفان إما أخ لك في الدِّين أو نظير لك في الخلق"، لکنّ بعض دعاة التَّعدُّدية الدِّينية يرفضون هذه القراءة، ويعتبرونها خارجة عن الموضوع.
2ـ التَّعدُّديّة الدِّينيّة المخلِّصة:
ومعناها، أنَّ الخلاص والسَّعادة توفرُّها جميع الشرائع في جميع العصور، فيقولون يکفي في سعادة الإنسان أن يؤمن بالله، وأن يلتزم في حياته واحدة من الشرائع وتعاليمها.
فيکفي للإنسان أن يعبد الله، وأن ينتسب لأحد الأديان السماويّة النَّازلة منه تعالى، وأن يعمل بأوامرها، أما شکل هذه الأوامر فلا أهمية له.
ويتبنّى هذه الفکرة کلٌ من جورج جرداق (لبنانيّ) -لديه سلسلة کتب عن الإمام علي توفي عام 2014م- وجبران خليل جبران الکاتب اللبنانيّ المسيحيّ المعروف وآخرون.
في ضوء هذا التَّفسير، ومن خلال المسار التَّاريخيّ للنبوّات، نستطيع أن نناقش هذا التَّفسير الثَّاني للتعدّديّة الدِّينيّة بالتالي:
إنَّ القول بخلود واستمرارية کلِّ شريعة يفضي إلى إلغاء فائدة تشريع الشرائع المتعدّدة، وإرسال الرسل المحوريّين، وسوف لا نجني من ذلك شيئاً سوی التشويش وبثّ الفرقة.
إذا قلنا يکفي في تحقيق السَّعادة اتّباع أيَّة شريعة، فلماذا تحدّد مسؤوليّة کلِّ نبيّ بمجيء النبيّ الآخر.
إذا کانت کلُّ الشرائع خالدة فلا موجب لنسخ الأحکام، ولو بشکل إجماليّ، ولما قال المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}(آل عمران/50).
تتوقّف حياة الإنسان في الآخرة على عقيدة صحيحة وعمل صالح، وتحقّقهما موجب للثواب. وهنا نسأل: کيف يمکن للتضادّ في العقيدة أو العمل بحکمين متضادّين أن يضمن الحياة المعنويّة للإنسان؟! وکيف يسعد الإنسان في الدارين بتبنّي التوحيد على جميع الأصعدة مع الإيمان بتثليث الربّ أو تجنّب الخمر والربا مع الإدمان وأكل الربا؟!
لو أعرضنا عن کلِّ ما سبق، فإنَّ واقعيّة السَّعادة التي توفّرها هذه الأديان ستکون مشروطة بعدم تحريفها، فهل هذا الشرط صادق في الشرائع السابقة؟
مع أنَّ الإنجيل سجل لتاريخ حياة المسيح، -وليس الإنجيل الحاليّ کتاب المسيح أو خطاباته- وقد کتبه بعض تلامذته، فکلّ واحد من الأناجيل الأربعة:
انجيل متّی: وجه خطابه لليهود - استشهد بالتوراة.
انجيل مرقس: الرومانيّ.
انجيل لوقا: طبيب يونانيّ - خاطب اليونانيّين.
انجيل يوحنّا: يوحنّا بن زبديّ أحد تلامذة (المسيح اليسوع) الذي لازموه - خاطب المسيحية لتقوية إيمانهم.
ضبط حياة المسيح بشکل خاصّ وذکر صلبه ودفنه وعروجه للسماء.
وکذلك التوراة الحاليّة قُرئت وکُتبت على يد أحد حفّاظ التوراة في زمان نوبخت نصر بعد اختفاء النسخة الأصليّة.
وهذه النسخة الحاليّة تعرّضت بعد مرور سبع مائة سنة للتحريف، واشتملت علی أحکام ونصوص تخالف العقل.
3ـ التَّعدُّديّة الدِّينيّة المعرفيّة:
ومعناها أنّ الدِّين واحد واقعاً، ويعود السَّبب في تعدّده إلى الفهم المختلف للأنبياء الإلهيّين.
وخلاصة هذا التَّفسير: إنَّ هناك حقيقة اسمها الإشراق تمكّن الأنبياء من الاتصال بالوجود وشهود وإدراك الله بدون واسطة.
ويعبِّرون عن هذه العملية بالتجربة الدِّينية غير أنَّ التَّعدُّدية الدِّينية لها علاقة بفهم الأنبياء، وهناك عوامل متعددة لوجود الاختلاف في الفهم بينهم (الثقافة، اللغة، التاريخ، الوضع الجسميّ..).
وبعبارة أخرى: إنَّ اتصال الأنبياء بهذا الموجود المجهول، أو الشعور بالارتکاز مطلقاً إلى موجود متعال حقيقة واحدة ولا تستبطن الکثرة، لکن يحصل الاختلاف عندما يراد التعبير عن هذه الحقيقة وصبّها في قالب لغويّ!
وهذا التَّفسير -ظاهراً- هو المقصود من قبل مؤسسيّ هذه النظريّة من قبيل "جون هيك"، والمنظرّين لها "الفلسفة الدِّينيّة"، والمدافعين عنها من قبيل "عبدالکريم سروش" في کتابه "صراط هاي مستقيم".
نقد هذا التفسير (التَّعدُّديّة الدِّينيّة المعرفيّة)
1. إذا لم يتمکن أحد من الوصول إلى الحقيقة، وکلّ شخص ينظر إليها بمنظاره الخاصّ، فيجب أن نقول:
إنَّ جميع الشرائع أو الأديان ستکون "طرقاً" غير مستقيمة، ومعارف غير ثابتة، وتفاسير قلقة من شهود الحقيقة، وهو يؤدي إلى التخبط دائماً في بحر الجهل، والتيه في ضلاله إلى يوم يبعثون.
فحينئذ نقول: لا فرق بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام والأديان الأخری مثل البوذيّة والهندوسيّة، بل حتى المذاهب الإلحاديّة مثل الماديّة والواقعيّة الحديثة؛ لأنَّ الجميع يشترکون في رسم صورة خاطئة للوجود، وعليه سيکون الإنسان مخيّراً في اختيار تثليث المسيحيّة أو توحيد الإسلام أو ألوهيّة براهما وبوذا.
وهذا التَّفسير يعکس وجود أزمة فکريّة لدى صاحب هذه النظرية.
2. لو فرضنا صحة هذه النَّظريّة، فإنَّ التَّعدُّديّة ستختصّ بالتعاليم والمعارف العقائديّة کالتوحيد والتثليث، والجبر والاختيار، والتنزيه والتجسيم، ولا تشمل الأحکام العمليّة والأخلاقيّة.
وبعبارة أخرى: إنَّ النصوص العقائديّة تشتمل على جنبة خبريّة، وتقول الله واحد أو الله ثلاثة... وهکذا بقيّة المسائل العقائديّة الأخری، بينما النُّصوص في التعاليم العملية والأخلاقية إنشائية من قبيل: افعل ولا تفعل مثلاً "صلّ، صُم، لا تشرب الخمر..".
فکيف لهذه النُّصوص الإنشائية أن ترتبط بالتجربة الدِّينية للأنبياء فيختلفون في التَّعبير عنها من خلال القوالب اللفظية.
3. لو افترضنا أنَّ القضايا العقائدية انعکاس لما يفهمه الأنبياء من التجربة الدِّينيّة، فکيف يکون للإشراق والعلاقة بالوجود المطلقة نتائج متناقضة، أحد الأنبياء يدعو للتوحيد والآخر للتثليث؟
يقول أحد دعاة التَّعدُّدية الدِّينية المعرفية وهو عبدالکريم سروش في کتابه صراط هاي مستقيم:
"إنَّ أوَّل من بذر بذور التَّعدُّدية في العالم هو الله، والله هو الذي أرسل أنبياء مختلفين، فتجلَّی لکلِّ واحد بشکل، وأرسل کلَّ واحدٍ إلى مجتمع، وجعل علی کلِّ لسان وذهن تفسيراً خاصاً، وبهذا الشکل أجَّج بوتقة التَّعدُّدية".
إنَّ إحدى مشکلات التَّعدُّديّة الدِّينيّة المعرفيّة هو وجود التناقض في دعوات الأنبياء (لأنهم يعتقدون أنَّ المسيح دعا إلى التثليث)، وطالما أخفقوا في حلِّ هذه الأزمة.
إضافة إلى أنَّ هذا التَّفسير يتنافی مع قولنا بعصمة الأنبياء في تلقّي الوحي وفي تبليغه.
وأيضاً، إنَّ التَّسليم به يلزم منه نقض الغرض في بعثة الأنبياء لهداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النُّور.
الخاتمة
إنْ كان المراد من التعدديّة الدينيّة هو التعدديّة الدينيّة السلوكية فلا محذور في ذلك ويمكن قبوله، إلا أنَّ هذا المعنى لا يقول به من يروّج لفكرة التعدديّة الدينيّة، بل يقول بالتعدّديّة الدينيّة المخلِّصة أو التعدّديّة الدينيّة المعرفيّة، وهذا لا يمكن قبوله -بهذين التفسيرين للتعدّديّة الدينيّة- لتعارضه مع المسلّمات الدينيّة التي أشرنا إليها ضمن البحث.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
انتهت
المصدر: کتابات؛ منصة لأقلام الحوزات العلمیة في البحرین
برچسب ها :
ارسال دیدگاه