هفته‌نامه سیاسی، علمی و فرهنگی حوزه‌های علمیه

نسخه Pdf

شبهات وإيضاحات حول أصول الفقه عند الشيعة الإمامية

□ مقالة/ الجزء الأول

شبهات وإيضاحات حول أصول الفقه عند الشيعة الإمامية

□  [آیة الله الشیخ]د. جعفر  السبحاني، إيران‎.‎

‎لقد قمنا بزيارة المملكة المغربية في مستهل عام 1425هـ، وتعرفنا على رجال الفكر والثقافة في تلك ‏البلاد من خلال إلقاء المحاضرات في غير واحدة من جامعاتها، وحول مواضيع مختلفة من الفقه وأصوله، ‏والعقائد والكلام، والتي كان لها دور خاص في تحقيق التفاهم والتعارف بين الطائفتين‎.‎
‎ومما يجب ذكره أني قد ألقيت محاضرة حول تطور أصول الفقه عند الإمامية في جامعة القرويين في ‏مدينة فاس بتاريخ 4 محرم الحرام 1425هـ، وذكرت فيها التطور الذي أحدثه علماء الإمامية في علم ‏الأصول عبر القرون على نحو لا يرى نظيره في المدارس الأخرى، وذكرنا نماذج من تقدم الحركة ‏الأصولية، وقد أعقبت هذه المحاضرة مناقشات واستفسارات أجبنا عنها حسب ما سمح لنا الوقت بذلك‎.‎
‎  ‎وفي اليوم الأخير من سفرنا والذي غاردنا فيه المملكة المغربية زرنا صباحا مؤسسة دار الحديث ‏الحسنية للدراسات الإسلامية العليا التي يديرها الدكتور أحمد الخمليشي، وقد استقبلنا بحفاوة وتكريم، ‏وتعرفنا هناك على عدد من الأساتذة المحترمين من أصحاب الاختصاصات المتنوعة، وقد دار الحديث ‏خلال هذه الزيارة في مواضيع عديدة لا يسمح المجال لذكرها هنا‎.‎
‎  ‎كل ذلك كان بفضل ربنا سبحانه وتعالى حيث التقينا بشخصيات علمية بارزة، ولمسنا منهم حب ‏المعرفة والاطلاع على مذهب الشيعة الإمامية والتقريب بين المسلمين، والاهتمام بالتبادل الثقافي بين ‏الجمهورية الإسلامية والمملكة المغربية‎.‎
‎  ‎وقد وقفنا في هذه الأيام على مقال نشر في العدد الثاني من مجلة «الواضحة»، الصادرة عن دار الحديث ‏الحسنية في المغرب المؤرخ في 1425هـ/2004م تحت عنوان: «أصول الفقه عند الشيعة الإمامية: تقديم ‏وتقويم»، بقلم الدكتور أحمد الريسوني، الأستاذ في جامعة محمد الخامس بالرباط‎.‎
‎  ‎ومن حسن الحظ أنا قد التقينا بصاحب المقال مرتين‎:‎
‎    ‎الأولى: خلال إلقاء محاضرة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، والتي ‏كان موضوعها: «الفقه الإسلامي وأدواره التاريخية.»‏
‎    ‎الثانية: كانت خلال الحفل الذي أقيم في سفارة الجمهورية الإسلامية في المغرب لتكريم ضيفها‎.‎
‎  ‎ونشكر الله الذي هيأ لنا هذه اللقاءات الأخوية‎.‎
‎  ‎وقد قرأت المقال ووجدت أن المواضيع التي تخضع للبحث والنقاش فيه عبارة عما يلي‎:‎
1. تأخر الشيعة في تدوين علم الأصول عن السنة‎.‎
2. أدلة الأحكام عند الشيعة الإمامية، ومنها: سنة الأئمة الاثني عشر والإجماع‎.‎
3. الإمامية ترفض الأخذ بالقياس، والاستصلاح، لأنها أدلة ظنية، وفي الوقت نفسه يعملون بالظنيات ‏كالعمل بأخبار الآحاد‎.‎
4. الإمامية يقولون بحجية الدليل العقلي، بينما يرفضون القياس، وهو من بديهيات العقول وأولياتها‎.‎
5. الإمامية ترفض حجية المصلحة؟! ولكنهم يأخذونها بأسماء وأشكال متعددة‎.‎
‎‎هذه هي المحاور التي يدور عليها مقال الدكتور الذي مارس النقد البناء، واستعرض وجهة نظره بعبارات ‏مهذبة، ونحن نتناول تلك الأمور بالبحث والمناقشة ضمن فصول، خضوعا لما أفاده في مقدمة مقاله ‏قائلا: على أنني حين أضع هذا المقال في سياق التقريب والسعي نحو التفاهم، فإني لا أنفي حتمية النقاش ‏الصريح والنقد الحر المتبادل، لأن التقريب المنشود لا يمكن أن يبنى على المجاملة أو المحاباة، ولكنه ‏بحاجة إلى تحسين الظن، وتهذيب الخطاب، وتحمل النقد، بحثا عما فيه من حق لقبوله، لا بحثا -فقط- ‏عما فيه من مداخل لنقضه وتسفيهه‎.‎
الأوّل:
التقديم في التأسيس أو التدوين‎ :‎
إن واقع العلم المنتشر قائم بأمرين‎:‎
1. إلقاء الأفكار التي تقدح في أذهان المؤسسين إلى تلاميذهم‎.‎
2. تدوين الأفكار من قبل المؤسسين أو تلاميذهم الذين اقتبسوا من أضوائهم واستلهموا تلك ‏الأفكار‎.‎
‎  ‎وليس علم الأصول شاذا عن هذه القاعدة‎.‎
‎  ‎إذا كانت الغاية من علم الأصول هو تعليم الفقيه كيفية إقامة الدليل على الحكم الشرعي واستنطاق الأدلة ‏الشرعية لاستنباط الحكم الشرعي في الحقول المختلفة، فإن أئمة أهل البيت(ع) لا سيما الإمامين ‏الباقر والصادق(ع) هم السابقون في هذا الميدان، فقد أملوا على أصحابهم قواعد كلية تتضمن قواعد ‏أصولية تارة، وقواعد فقهية تارة أخرى، فربوا جيلا كبيرا من الفقهاء في مجال الاجتهاد والاستنباط ‏حفلت معاجم الرجال والتراجم بأسمائهم وآثارهم‎.‎
‎  ‎فمن سبَر ما وصل إلينا من آثار الفقهاء في القرن الثاني والثالث ممن تربوا في أحضان أهل البيت ‏(ع) يقف على مدى رقيهم في سلم الاجتهاد، فمن باب المثال انظر إلى ما بقي إلى هذا الوقت من ‏اجتهادات تلاميذ الإمامين الصادقين(ع)، نظير‎:‎
‎    • ‎زرارة بن أعين (ت150هـ) الذي يقول في حقه ابن النديم: «زرارة أكبر رجال الشيعة فقها ‏وحديثا.»‏
‎    • ‎محمد بن مسلم الثقفي (المتوفى عام 150هـ)‏‎.‎
‎    • ‎يونس بن عبد الرحمن (المتوفى عام 208هـ)‏‎.‎
‎    • ‎الفضل بن شاذان (المتوفى عام 260هـ)، مؤلف كتاب "الإيضاح" المطبوع‎.‎
‎  ‎إلى غيرهم من الفقهاء البارزين الذين تركوا تراثا فقهيا مستنبطا من قواعد أصولية وفقهية على نحو يبهر ‏العقول، وقد ذكرنا شيئا من فتاواهم واجتهاداتهم في كتابنا: «تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره»، وقد كانت ‏اجتهاداتهم واستنباطاتهم على ضوء قواعد تلقوها عن أئمتهم(ع) واستضاءوا بنور علومهم‎.‎
‎  ‎وقد جاءت هذه القواعد مبثوثة في ضمن أحاديث موجودة في جوامعنا الحديثية. وقد قام جماعة من ‏المحدثين بفصل هذه الروايات وجمعها في مكان واحد، نذكر منهم‎:‎
1. العلامة المجلسي (1037-1110هـ) ضمن موسوعته الكبيرة "بحار الأنوار" في كتاب العقل ‏العلم‎.‎
2. الشيخ الحر العاملي (ت1104هـ) في كتاب أسماه "الفصول المهمة في أصول الأئمة"، وقد اشتمل ‏على ستة وثمانين بابا أودع فيها الأحاديث التي تتضمن قواعد أصولية وفقهية مما يبتني عليها الاستنباط‎.‎
3. ‎المحدث الخبير السيد عبد الله شبّر (ت1242هـ) في كتاب أسماه "الأصول الأصلية والقواعد ‏الشرعية" يحتوى على مائة باب، وقد طبع الكتاب في ثلاثمائة وأربعين صفحة‎.‎
4. أخيرهم لا آخرهم العلامة الفقيه السيد محمد هاشم الخوانساري الأصفهاني (ت1318هـ) الذي ‏خاض بحار الأحاديث وصرف برهة من عمره في جمع هذا النوع من الروايات المروية عن أهل البيت ‏(ع)-والتي تتضمن الأصول والقواعد التي يبتنى عليها الاستنباط- في كتاب سماه "أصول آل ‏الرسول"، وأورد فيه خمسة آلاف حديث من هذا النوع، ولو أسقطنا المتكرر منها لكان في الباقي غنى ‏وكفاية، وهذا يشهد على تقدم أئمة أهل البيت(ع) في تأسيس الفكرة وهداية الأمة إلى تلك القواعد ‏والأصول‎.‎
‎  ‎هذا وإن كثيرا من أئمة الفقه كانوا سباقين في التأسيس لا في التدوين. وإنما قام بالتدوين تلاميذ ‏منهجهم، ومن المعلوم أن الفضل للمؤسس لا للمدون‎.‎
‎  ‎هذا الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (80-150هـ) أحد أئمة المذاهب الأربعة، ومؤسس الفقه الحنفي ‏قد أسس مدرسة فقهية توسعت على يد تلاميذه، وأخض بالذكر منهم تلميذه المعروف محمد بن الحسن ‏الشيباني (131-189هـ)، وتلميذه الآخر القاضي أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (113-‏‏182هـ)،وهذان الفقهيان اتصلا بأبي حنيفة وانقطعا إليه وتفقها على يديه، وبهما انتشر المذهب، والفضل ‏للمؤسس لا للمدون‎.‎
‎  ‎وهذا هو أحمد بن محمد بن حنبل (164-241هـ) الحافظ الكبير حيث لم يصنف كتابا في الفقه يعد ‏أصلا ومرجعا، وإنما جمع أصوله تلميذ تلميذه "الخلال" من الفتاوى المتشتتة الموجودة بين أيدي ‏الناس، وجاء من جاء بعده فاستثمرها وبلورها حتى صارت مذهبا من المذاهب. يقول الشيخ أبو زهرة: ‏‏«إن أحمد لم يصنف كتابا في الفقه يعد أصلا يؤخذ منه مذهبه ويعد مرجعه ولم يكتب إلا الحديث.»‏
‎  ‎ومع هذا فقد صقل تلاميذه مذهبه وألفوا موسوعة فقهية كبيرة، كـ"المغني" لابن قدامة‎..‎
‎  ‎وأما مسألة التدوين، فهي وإن كانت أمرا مهما قابلا للتقدير، لكن لا نخوض فيها، على الرغم من وجود ‏تآليف في أصول الفقه للشيعة الإمامية يعود تاريخها إلى نهاية القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري‎.‎
‎  ‎ومن سبر تاريخ الحديث والفقه ودور الأئمة الاثني عشر وخاصة الباقر والصادق(ع) في حفظ سنة ‏النبي  وتوعية الناس، يقف على أن حضور مجالسهم كان واسعا جدا، فكان يحضر فيها فئات مختلفة من ‏طوائف المسلمين، وكانت خطاباتهم موجهة إلى عامة الحاضرين.. فإن الفوارق التي نشاهدها اليوم بين ‏السنة والشيعة لم تكن في عصر الإمامين(ع) على حد تصد غير شيعتهم عن الاختلاف إلى مجالسهم ‏ومحاضراتهم، فقد كان يشهد حلقات دروسهم فريق من التابعين وتابعي التابعين، من غير فرق بين من ‏يعتقد بإمامتهم وقيادتهم أو من يرى أنهم مراجع للعقائد والأحكام‎.‎
‎   ‎هذا هو التاريخ يحكي أن حلقة درس الإمام الصادق(ع) كانت تضم عددا كبيرا من رجال العلم، وها ‏نحن نذكر فيما يلي أسماء البارزين منهم‎:‎
‎  ‎‏1‏‎- ‎النعمان بن ثابث (ت150هـ) صاحب المذهب الفقهي المعروف، يقول محمود شكري الألوسي في ‏كتابه "مختصر التحفة الاثني عشرية": هذا أبو حنيفة وهو من بين أهل السنة كان يفتخر ويقول بأفصح ‏لسان: «لولا السنتان لهلك النعمان"، يريد السنتين اللتين صحب فيهما -لأخذ العلم- الإمام جعفر ‏الصادق(ع).‏
يقول أبو زهرة: «وأبو حنيفة كان يروي عن الصادق كثيرا، واقرأ كتاب الآثار لأبي يوسف، والآثار ‏لمحمد بن الحسن الشيباني، فإنك واجد فيهما رواية عن جعفر بن محمد في مواضيع ليست قليلة.»‏
‎  ‎‏2‏‎ - ‎مالك بن أنس (ت179هـ): وكانت له صلة تامة بالإمام الصادق(ع)،وروى الحديث عنه، واشتهر ‏قوله: ما رأت عين أفضل من جعفر بن محمد‎.‎
‎  ‎‏3‏‎ - ‎سفيان الثوري (ت161هـ): من رؤساء المذاهب وحملة الحديث، وكان له اختصاص بالإمام ‏الصادق، وقد روى عنه الحديث، كما روى كثيرا من آدابه وأخلاقه ومواعظه‎.‎
‎  ‎‏4‏‎ - ‎سفيان بن عيينة (ت198هـ): وهو من رؤساء المذاهب البائدة‎.‎
‎  ‎‏5‏‎ - ‎شعبة بن الحجاج (ت160هـ): خرج له أصحاب الصحاح والسنن‎.‎
‎  ‎‏6‏‎ - ‎فضيل بن عياض (ت 187هـ): أحد أئمة الهدى والسنة، خرج له البخاري‎.‎
‎  ‎‏7‏‎ - ‎حاتم بن إسماعيل (ت180هـ) خرج له البخاري ومسلم، أخذ عن الصادق(ع)، وأخذ عنه خلق ‏كثير‎.‎
‎  ‎‏8‏‎ - ‎حفص بن غياث (ت 194هـ) روى عن الصادق(ع) وروى عنه أحمد وغيره‎.‎
‎  ‎‏9‏‎ - ‎ابراهيم بن محمد أبو إسحاق المدني (ت 191هـ): روى عن الصادق‎.‎
‎  ‎‏10‏‎ - ‎عبد الملك بن جريج القرشي (ت 149هـ)‏‎.‎
‎  ‎هذه عشرة كاملة، ومن أراد أن يقف على حملة علمه وتلامذة منهجه من السنة، فعليه بكتاب "الإمام ‏الصادق والمذاهب الأربعة" لأسد حيدر‎.‎
‎  ‎هذه نبذة ممن استناروا بنور الصادق(ع) الوهاج، وانتهلوا من نميره العذب، وتلقوا عنه الفقه والحديث ‏كما تلقاها عنه غيرهم من شيعته‎.‎
الثاني:
أدلة الأحكام عند الإمامية‎:‎
‎  ‎اتفقت الشيعة الإمامية على أن منابع الفقه ومصادره لا تتجاوز الأربعة، وهي: الكتاب، السنة، الإجماع، ‏العقل. وما سواها إما ليست من مصادر التشريع، أو ترجع إليها‎.‎
‎  ‎هذا هو فقيه القرن السادس محمد بن ادريس الحلي (543-598هـ) يذكر الأدلة الأربعة في ديباجة ‏كتابه "السرائر" ويحدد موضع كل منها، ويقول: فإن الحق لا يعدو أربع طرق: إما كتاب الله سبحانه، أو ‏سنة رسوله  المتواترة المتفق عليها، أو الإجماع، أو دليل العقل؛ فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل ‏الشرعية عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة، التمسك بدليل العقل فيها، فإنها مبقاة عليه وموكولة ‏إليه، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل  الفقه، فيجب ‏الاعتماد عليها والتمسك بها.‏
تقسيم الأدلة إلى اجتهادية وأصول عملية‎:‎
تقسيم الأدلة إلى اجتهادية وأصول عملية من خصائص الفقه الشيعي، وأما الفرق بينهما فهو كالتالي‎:‎
وهو أنه لو كان الملاك في اعتبار شيء حجة على الحكم الشرعي هو كونه أمارة للواقع وطريقا إليه عند ‏المعتبر فهو دليل اجتهادي كالأدلة الأربعة، فإن الملاك في حجيتها هو ما ذكرنا، فإن كلا من الكتاب ‏والسنة حتى الخبر الواحد منها طريق إلى الواقع، وكاشف عنه إما كشفا تاما كما إذا أفاد القطع، أو كشفا ‏غير تام كما في خبر العدل، وعلى كل تقدير، فالملاك لاعتباره حجة هو كاشفيته عن الواقع‎.‎
وأما إذا كان الملاك بيان الوظيفة ووضع حلول عملية للمكلفين عند قصور يد المجتهد عن الواقع فهو ‏أصل عملي، فالملاك لاعتبار هذا القسم من الأدلة هو رفع التحير وإراءة الوظيفة عند اليأس عن العثور ‏على دليل موصل للواقع، ولذلك أخذ في لسان حجيتهم الجهل بالواقع وعدم توفر طريق في متناوله، ‏وهذه الأصول العامة التي تجري في عامة أبواب الفقه لا تتجاوز الأربعة، وهي‎:‎
‎    ‎‏1‏‎. ‎أصالة البراءة‎؛  ‎‏2‏‎. ‎أصالة الاشتغال‎؛  ‎‏3‏‎. ‎أصالة التخيير‎؛ ‎‏4‏‎. ‎وأصالة الاستصحاب‎.‎
ولكل منها مجرى خاص‎:‎
أما الأولى: فمجراها هو الشك في التكليف، فإذا كان المجتهد شاكا في أصل الوجوب أو الحرمة، ‏وتفحص عن مظان الأدلة ولم يقف على دليل وحجة على الحكم الشرعي، فوظيفته الحكم بالبراءة عن ‏التكليف، كما إذا شك مثلا في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا، أو ما أشبه ذلك، والأصل له رصيد ‏قطعي وهو‎:‎
أ ) قول الرسول : رفع عن أمتي تسعة.. وما لا يعلمون‎.‎
ب) حكم العقل بقبح عقاب الحكيم دون بيان واصل‎.‎
وأما الثانية: فمجراها فيما إذا علم بالحكم الشرعي، ولكن تردد الواجب أو الحرام بين أمرين، فيجب عليه ‏الجمع بين الاحتمالين بالإتيان بهما عند تردد الواجب، والاجتناب عنهما عند تردد الحرام، مثلا، إذا علم ‏بفوت صلاة مرددة بين المغرب والعشاء يجب عليه الجمع بينهما، أو إذا علم بنجاسة أحد الإناءين من غير ‏تعيين يجب الاجتناب عن كليهما‎.‎
وأما الثالثة: إذا دار حكم الشيء بين الوجوب والحرمة ولم يقف على دليل شرعي يوصله إلى الواقع، ‏فالوظيفة العملية هي التخيير‎.‎
وأما الرابعة: وهو ما إذا ما علم بوجوب شيء أو بطهارته، لكن شك في بقاء الحكم أو بقاء الموضوع ‏وتفحص ولم يقف على بقائه أو زواله، فالمرجع هو الأخذ بالحالة السابقة أخذا بقول الإمام الصادق(ع): ‏‏«لا يُنقض اليقين بالشك.»‏
هذه هي الأصول العملية الأربعة التي استنبطها المجتهدون من الكتاب والسنة، وليس لها دور إلا عند فقد ‏النص على الحكم الشرعي، ولكل مجرى خاص، وليس الملاك في اعتبارها كونها كاشفة عن الواقع، بل ‏كونها مرجعا للوظيفة الفعلية‎.‎
تقسيم الأصول إلى أصل محرز وغير محرز‎:‎
إن الأصول العملية تنقسم إلى أصول محرزة وأصول غير محرزة: والمراد من الإحراز هو إحراز الواقع ‏والكشف عنه، وذلك لأن بعض الأصول فيه جهة كشف عن الواقع كشفا ضعيفا، لكن العقلاء لا يعتبرون ‏في معاملاتهم وسياساتهم كونه حجة لهذه الجهة، بل الملاك لاعتباره هو تسهيل الأمر في الحياة، ووضع ‏حلول عملية في ظرف الجهل والشك، كما أن الشارع الذي أمضاه واعتبره حجة في الفقه لم يعتبره لهذه ‏الغاية حتى يكون أمارة عقلانية كخبر الثقة‎.‎
ومثلوا لذلك بالأصول العملية الثلاثة‎:‎
‎    ‎‏1‏‎. ‎الاستصحاب‎؛ ‎‏2‏‎. ‎وقاعدة اليد‎؛  ‎‏3‏‎. ‎قاعدة التجاوز‎.‎
فالأول منها أصل عام يجري في عامة أبواب الفقه، بخلاف الأخيرين فإنهما خاصان ببعض الأبواب. وما ‏سوى ذلك أصل غير محرز كأصالة البراءة والاشتغال والتخيير‎.‎
هذه هي أدلة الأحكام عند الشيعة الإمامية، فهلم معي ندرس ما ذكره الأستاذ حول أدلة الأحكام عند ‏الشيعة لنرى فيه مواقع الخطأ والالتباس على ضوء الدراسة الصحيحة لأصول الفقه عند الإمامية‎.‎
أولا - مسلك الشيعة مسلك الغزالي‎ :‎
يقول الأستاذ: جعلت الشيعة أدلة الأحكام المعتمدة أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل. ثم قال: ولا ‏يخفى على الدارس أن هذا هو مسلك الإمام الغزالي في باب الأدلة.‏
يلاحظ عليه: لا نظن أن الأستاذ يتهم الشيعة بمتابعتهم الغزالي في حجية الكتاب والسنة، فإن المسلمين ‏قاطبة يقولون بذلك، وإنما مظنة التهمة قولهم بحجية العقل‎.‎
فنقول: هناك فرق واضح بين المسلكين: الإمامي والغزالي، فإن الأول يعتمد على التحسين والتقبيح ‏العقليين، والغزالي تبعا لإمام مذهبه يرفض ذلك ويقول: «إن لله عز وجل إيلام الخلائق وتعذيبهم من غير ‏جرم سابق، لأنه متصرف في ملكه.»‏
والعقل الذي هو مصدر التشريع عند الإمامية أو كاشف عن التشريع الإلهي على الأصح هو العقل المعتمد ‏على حكمين ينبعان من صميم العقل‎:‎
‎    • ‎التحسين والتقبيح العقليان‎.‎
‎    • ‎الملازمات العقلية‎.‎
وأين الغزالي ومنهاج أستاذه عن القول بهما؟
وتضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت(ع) على حجية العقل قبل أن يولد الغزالي بقرون، قال الإمام ‏الصادق(ع): «حجة الله على العباد: النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله: العقل.»‏
وقال الإمام موسى بن جعفر(ع) (ت 183هـ) مخاطبا هشام بن الحكم: «يا هشام، إن لله على الناس ‏حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول.»‏
إن أئمة أهل البيت(ع) أعطوا للعقل أهمية كبيرة، فهذا الإمام الباقر(ع) يقول: «إن الله لما خلق العقل ‏استنطقه إلى أن قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا في من أحب، ‏أما إني إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أعاقب وإياك أثيب.»‏
فكان المترقب من الأستاذ المحترم أن لا يقضي في الموضوع إلا بعد الإحاطة بأصول الشيعة الإمامية‎.‎
ثانيا - تقييم تعريفه للأدلة الاجتهادية والأصولية العملية‎:‎
قد تعرفت على ما هو الفرق بين الأدلة الاجتهادية والأصولية العملية، وعلى تقسيم الأصول إلى أصل ‏محرز وغير محرز‎.‎
وللأستاذ كلام في هذا الصدد نأتي به‎:‎
أ) الأدلة الأربعة المعتمدة المشار إليها آنفا تسمى الأدلة المحرزة -الكتاب والسنة والعقل والإجماع- ‏ويقابلها الأصول العملية باعتبارها تعطي حلولا عملية للمكلفين حين يتعذر عليها إحراز الحكم الشرعي ‏من دليله‎.‎
يلاحظ عليه: أنه أصاب في التفريق بين الأدلة الأربعة والأصول العملية، إلا أن وصف الأدلة الأربعة ‏بالأدلة المحرزة خلاف المصطلح، وإنما يوصف بها بعض الأصول، فمنها أصل محرز ومنها غير محرز كما ‏تقدم في كلامنا، وإنما توصف الأدلة الأربعة بالأدلة الاجتهادية‎.‎
ب) ويدخل ضمن هذه الأصول العملية جملة قواعد: أهمها قاعدة الاحتياط، انطلاقا من أن الأصل هو ‏شغل الذمة بالتكليف وأن لله في كل نازلة حكما يتعين الالتزام به، وقاعدة البراءة الأصلية، انطلاقا من أن ‏الأصل براءة الذمة من التكليف، وقاعدة الاستصحاب التي تقضي بإبقاء ما كان على ما كان انطلاقا من أن ‏اليقين لا يرتفع بالشك.‏
يلاحظ عليه: أن قاعدة الاحتياط تنطلق من العلم القطعي بنفس التكليف في الواقعة بلا تردد فيه، والجهل ‏بالموضوع كما إذا علم بفوت إحدى الصلاتين المغرب أو العشاء، فيجب عليه قضاؤهما، وما ذكره من ‏المنطلق يعني أن "الأصل هو شغل الذمة بالتكليف" له لا صلة له بقاعدة الاحتياط، بل أساسه هو العلم ‏بالتكليف والجهل في المتعلق‎.‎
والعجب أنه عندما يفسر قاعدة الاحتياط عند الإمامية، يقول: الأصل شغل الذمة بالتكليف‎.‎
وعندما يفسر قاعدة البراءة عندهم بقوله: «الأصل براءة الذمة من التكليف"، وهذا هو نفس التناقض، فلو ‏كان الأصل هو الاشتغال فما معنى كون الأصل هو البراءة؟‎!‎
وهذا يكشف عن أن الأستاذ لم يكن ملما بأصول الفقه عند الإمامية حيث ارتكب في بيانها التناقض. كما ‏أن ما ذكره "إن لله في كل نازلة حكما يتعين الالتزام به" وجعله منطلقا للاحتياط عجيب جدا، لأن العلم ‏بأن لله في كل نازلة حكما لا يسبب الاحتياط، وإذ من المحتمل أن يكون حكم الله في المورد هو ‏الإباحة أو الكراهة، أو الاستحباب‎.‎
إنتهت إلی هنا ویلیها الجزء الثاني في العدد المستقبل
المصدر: مجلة الواضحة، العدد الثالث

برچسب ها :
ارسال دیدگاه