هفته‌نامه سیاسی، علمی و فرهنگی حوزه‌های علمیه

نسخه Pdf

ابن عربي ومخالفة منهج الثقلين

مقالة

ابن عربي ومخالفة منهج الثقلين

محاسن غني النداف

يُعَدّ محيي الدين ابن عربي (560هـ – 638هـ) من أبرز أعلام التصوف الإسلامي وصاحب نظرية وحدة الوجود التي أثارت الكثير من الجدل في الأوساط الدينية. فبالرغم من أنه قد قدّم رؤى روحية وفكرية عميقة في كتبه مثل؛ الفتوحات المكية، وفصوص الحكم، إلا أن فكره لم يسلم من الانتقاد، إذ وُصِف بعضه بالتماس مع الغلو أو اللبس العقدي.
ابن عربي ونظرية وحدة الوجود:
 يمكن القول: إن ابن عربي وإن كان  مصيبًا في بعض الطروحات، إلا أنه أخطأ في أخرى على نحوٍ لا يمكن غض الطرف عنه: فهو قد أصاب حين أبرز عظمة الله وأن الوجود قائم به وحده، وكذلك حين دعا إلى تزكية النفس والسمو الروحي، لكنه أخطأ حين أطلق نظريته في وحدة الوجود بصياغةٍ فضفاضةٍ فتحت الباب أمام التأويلات المتناقضة، حتى عُدّت أحيانًا مائلة إلى الحلول أو الاتحاد.
كما أن مايطرحه من معتقدات تدعو إلى التساؤل عن أفق العلاقة بينه وبين القرآن الكريم! فآراؤه تكشف عن خلط واضح في فهم النصوص القرآنية، وتأويلها بما يساوق ذوقه العقدي الصوفي.
ففي الوقت الذي يرى فيه أن وجود الله سبحانه في حياة الإنسان ضروري وأساسي ليحيا حياةً حرّةً وكريمةً، إلا أنه يؤكد أيضًا على (ضرورة وجود الإنسان بالنسبة إلى وجود الله لأنه -حسب قوله- يُظهر كمالات الله)، وهنا صورة جلية من صور الخلط الذهني البعيدة كل البعد عن حقيقة أن الله سبحانه هو الغني المطلق؛ إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر: 15).
فما يكتنفه الوجود الإنساني من دلائل وآيات إنما يعضد إيمانه بوجود الله، مما يرسخ الأُسس الفطرية، ويؤكد مصداقية المبتعثين بالتبليغ والهداية، فنفع هذا الوجود عائد على نفس الموجود، الذي يحتاج إلى أن يفهم ما في خلقه من كمالات ولطائف، وكيف أنها تعكس  كمالات الخالق سبحانه،  فإن غفل الإنسان عن هكذا معرفة، فهل سيضر الله شيئاً؟!
{وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (إبراهيم: ٨).
فهذه المعرفة،التي نبه عليها الرسل والأنبياء(ع)،  إنما هي رحمة من الله بما تستبطنه من هداية، إذ قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فُصِّلت: 53).
وعلى فرض تأويل معتقد ابن عربي -آنف الذكر- بغية  رده إلى ساحة الاعتقاد الصحيح، إلا أنه  قد أخرج الكثيرين إلى فضاء اللبس والخلط في المفاهيم، مما يستدعي الاحتياط وأخذ جانب الحذر عند مطالعة تراثه الفكري. يقول مولى الموحدين علي بن أبي طالب(ع): (يا مَن دَلّ على ذاتِهِ بذاتِهِ)، وليس بمخلوقاته، ويقول أيضًا: (اعرفوا اللهَ باللهِ).
مغالطات ابن عربي ما بين فرعون وأبي طالب(ع):
مثال آخر على شذوذ ابن عربي التفسيري للنصوص القرآنية والحوادث التأريخية؛ هو تأكيده على إيمان فرعون وكفر أبي طالب(ع)، إذ یقول في فصوص الحکم عن فرعون لعنة الله عليه: «فَقَبَضَهُ طاهِراً مُطَهَّراً لَیسَ فیهِ شَیئٌ مِنَ الخُبثِ لِأنَّهُ قَبَضَهُ عِندَ إیمانِهِ قَبلَ اَن یَکتَسِبَ شَیئاً مِنَ الآثامِ»، وهذا شذوذ واضح عن السياق القرآني الحاكي عن كفر وعصيان فرعون، وإعراض صريح عن قوله سبحانه: «وَلَیسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذینَ یَعمَلُونَ السَّیِّئاتِ حَتّی اِذا حَضَرَ اَحَدَهُمُ المَوتُ قالَ إنّي تُبتُ الآن» (النساء: ١٨)، فللتوبة علامات وشروط حددها المولى في كتابه الكريم، ولا مجال للتأويل في نص قرآني صريح.
وفي المقابل نجده يُكفّر سيدنا أبا طالب(ع) عم رسول الله محمد(ص)، إذ قال  حول كتابٍ يزعم أنه تلقّاه من النبيّ(ص) في حال المكاشفة: «لو كان للهمّة أثر، لما كان هناك أكمل من رسول الله ولا أحد أعلى وأقوى همّةً منه، ومع ذلك لم تُؤثّر همّته في إسلام عمّه أبي طالب».
ويمكن تفسير جانب من هذا الإخفاق بكونه اعتمد على إشراقاته الفكرية وذوقه التحليلي   الشخصي، المبتنى على بعض الأسس الفكرية الصوفية،  دون أن يُخضعها لميزان العصمة المتمثل بما أوصى به النبي الأكرم محمد(ص): "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً".
فالركون إلى الذوق الفردي مهما بلغ من العمق، من دون الرجوع إلى المرجعية القطعية (القرآن الكريم وتفسير العترة الطاهرة)، سيؤدي حتمًا إلى الانحراف أو اللبس، مما يصير الفكرُ أُلعوبةً بيد الشيطان. وقد روي عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) أنه قال: (علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع)، ولكن حتى هذا التفريع لا بد من أن يبقى منضبطًا بالأصل وحدوده، غير خارج عنه.
الفرق بين الصوفية والعرفان:
إن هذا الانحراف عن المنهج النبوي قد سمح بالاجتهاد في ساحة النص،  ومثاله: ما حصل من سوء فهم للعلاقة مع الله سبحانه والتي تُعرف عند أتباع مذهب أهل البيت(ع) بـ(العرفان)، وعند باقي المذاهب الإسلامية بالصوفية، والذي تبّناه ابن عربي.
فالمذهب الصوفي وإن كان قائمًا على علاقة المصافاة مع الإله المعبود، إلا أنه اتخذ طابع الرهبنة التي حرمها الله ورسوله، بما تكتنفه من ابتداع لفروضٍ ما أنزل الله بها من سلطان: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 27)، حيث إنها تحرم الإنسان من فاعليته الاجتماعية، حين تدفع به نحو العزلة عن المجتمع، إرادةً منه  لتزكية النفس وتكامل الروح! فالانقطاع إلى الله أمر راجح، غير أنه يصبح مرجوح حين يتعدى حدوده.
 والسيرة النبوية واضحة الدلالة على أن العبودية الصادقة، تنبع من تزكية النفس  بالصبر على مكاره المخالطة، وحسن مدارة الناس، والتغافل عن عيوبهم، وهو ما يُعرف في الأدبيات الأخلاقية بـ(التخلية) و(التحلية) و(التجلية)، ومفادها: التخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل، فتشرق بصائر القلوب بضياء نظرها إلى المحبوب، فمدار العرفان هو الخُلق الرفيع وليس الاعتزال المنيع. قال رسول الله(ص): (فلولا الشياطين تحوم حول قلب ابن آدم لَرأوا ملكوتَ السماواتِ والأرضِ).
فالعرفان عند أهل البيت(ع) مستمد مباشرة من الوحي، واضح المعالم، متكامل الأركان، بعيد عن الغموض، ومحصّن من الانحراف. ففي كلماتهم الشريفة يتجلّى العرفان بأصفى صوره، كما في أدعية الإمام علي(ع): "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنِر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حُجُبَ النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك". وكذلك جاء عن الإمام الحسين(ع): "أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك".
فما الداعي إلى العزوف عن فرات أهل البيت(ع)؟! وهو فراتٌ أصله الوحي ومجراه النبوة، وفرعه الإمامة!
إذًا، يمكن القول: إنّ ابن عربي قد تكون نيته صادقة في بحثه عن الحقائق الإلهية، لكنّ عدم  انضباطه بميزان "الثقلين" أوقعه في مواطن التناقض والالتباس. فلا مناص من الاعتصام بوصية النبي الكريم(ص)لنكون في مأمن عند الخوض في لجج المعارف الفكرية والعقائدية. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر:7).
المصدر: کتابات في المیزان

برچسب ها :
ارسال دیدگاه