قراءة وتحلیل
"نقد السلطة من منظور أخلاقي" للباحث الإيراني عماد أفروغ (رؤية إسلامية في السياسة الأخلاقية)
"نقد السلطة من منظور أخلاقي" كتاب للباحث الإيراني عماد أفروغ صدرت ترجمته إلى العربية حديثاً عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي في بيروت.
يندرج هذا الكتاب ضمن سلسة المؤلفات التي يعكف المركز على نقلها إلى اللغة العربية، والتي تلقي الضوء على الفكر السياسي الإسلامي بأبعاده المختلفة وخصوصاً منها البعد الأخلاقي.
وهذا الكتاب على الرغم من موضوعاته المتعددة العناوين إلاّ أنه يركّز على معالجة مشكلة الأخلاق في العمل السياسي بميادينه المختلفة. ولذلك سيلاحظ القارئ أن الكتاب هو مجموعة دراسات نظمها المؤلف وتصبو إلى غاية واحدة، وهي محاولة ضبط ممارسة السلطة بضوابط أخلاقية ولو بالمعنى العام للأخلاق. فالحرية والعدالة والنقد وضوابطه، إنما هي جميعاً موضوعات تهدف إلى تقييد السلطة، و يمكن القول إنها مفاهيم تؤطّر عمل السلطة بإطار أخلاقي.
بين الأخلاق والسياسة والسلطة
تشكل الأخلاق والسياسة ومفهوم السلطة الإطار العام للأبحاث الواردة في هذا الكتاب. غير أن الكاتب عمل على ألا تبقى معالجته للمسألة الأخلاقية مسألة نظرية مجردة، ولذلك استند إلى تجارب أساسية في تاريخ الإسلام، منذ البعثة النبوية الشريفة وصولاً إلى التجربة الإسلامية في إيران المعاصرة. ووفقاً لهذه المنهجية الجامعة بين الجانب النظري والتجارب التاريخية، برزت العناوين للوهلة الأولى وكأنها غیر مترابطة. إلا أن واقع الأمر ليس كذلك؛ فحين نقرأ المباحث نلحظ ترابطاً منطقياً، حيث إن القضية الأخلاقية تشکل المحور في جميع الأبحاث. يمكن أن نستدل على ذلك من خلال العنوان التي جاءت على الترتيب الفهرسي التالي: الإسلام والعولمة، الحقوق الثقافية ودور الدولة، مفهوم الحرية ونظريات حرية الصحافة، الأسئلة الأساسية حول العلاقة بين الأخلاق والسياسة، الديموقراطية الدينية كفلسفة سياسية ناشئة، مبادئ التجديد الديني ونطاقه عند الإمام الخميني(قد)، آراء جون راولز عن العدالة، المجتمع المدني وموقعه في إيران، النقد في الجمهورية الإسلامية؛ الجوهر، والضرورة، والأركان.
ولا شك فإن ما دفع بالكاتب إلى خوض هذه التشكيلة الواسعة من الموضوعات والقضايا، يكمن في محاولته تسليط الضوء على مفهوم السلطة وممارساتها الأخلاقية. ومن المفيد القول إن محاولة كهذه هي ذات أهمية أساسية في الفلسفة السياسية، حيث كانت السلطة وما زالت موضوعاً للدرس في علوم عدة. ومن هنا تعددت الفروع العلمية التي يضاف اليها وصف السياسي، فيقال مثلاً: علم الاجتماع السياسي، والفقه السياسي، والفلسفة السياسية، وعلى هذه يقاس ما سواها من علوم شُغلُها التنظير للسلطة والبحثُ عنها. ولعلنا لا نجازف إذا حكمنا بأنّ مثل هذه المعالجات لا تشي بمبالغة تنظيرية لا يحتاجها الواقع؛ وذلك أن السلطة هي مكمن المخاطر وقلما تنجو سلطة من سهام النقد الذي يوجه اليها من هنا وهناك مصيباً كان هذا النقد أم مجانباً للحقيقة أو منطلقاً من الغرض والهوى الضلل.
الديموقراطية الدينية والقضية الأخلاقية
نستطيع التصريح بأنّ طرح الديمقراطية الدينية شكل محوراً أساسياً في هذا الكتاب، ففي مجال الكلام على على هذا الطرح كمصطلح يجري تداوله في الساحة الثقافية في إيران منذ نحو أربعة عقود، يحاول الكاتب مقاربة الموضوع من خلال السؤال التالي: كيف يمكن أن توازن الديموقراطية الدينية بين الديموقراطية والثيوقراطية كنظامين للحكم؟ وبالتالي كيف يمكن الجمع بين حكم الشعب وحكم الله؟ في جوابه يرى المؤلف: إنّ لحكم الشعب جانباً سلبياً وجانباً إيجابياً؛ فالجانب السلبي يدل على امتناع ولاية شخص أو فئة خاصة على الآخرين، بينما يشير الجانب الإيجابي إلى إمكانية ولاية شخص أو فئة على الآخرين عن طريق صناديق الاقتراع. من الواضح أن الوجه الإيجابي للديموقراطية لا يجتمع عقلياً وجوهرياً مع حكم الله؛ كامتناع الجمع بين مفهوم العقل القائم بالله والعقل القائم بذاته. لكن ينطبق وجهه السلبي على الثيوقراطية بصورة كاملة. إنّ مفهوم الشعب يحتمل الكثير من التأويل، كما يحمل معه الكثير من الغموض والتعقيد، وحصره في الغالبية الانتخابية واختيار جماعة منتخبة لتسير الأمور، يثيران نقاط استفهام عدة: فما هو الضمان أن تهتم الحكومة المنبثقة من أصوات الشعب بالجوانب الأخلاقية والروحية أو تعمل وفق مصالح الشعب الحقيقية ومتطلباتهم الواقعية؟ أليس من الممكن أن تؤدي صناديق الاقتراع إلى سلطة ديماغوجية ترجح المصالح الفئوية والشخصية على المصالح العامة؟ مع هذا، فلا يمكن إنكار الإيجابيات الموجودة في هذا النوع من الحكم – أي الليبرالية الديموقراطية- لا سيما ما يتعلق بحقوق الأشخاص الثابتة والطبيعية والمبدئية. ولعل من أهم هذه الحقوق محوريةً - حتى لو بقيت حبراً على ورق - كما يقول الكاتب، هو رفض الولاية المبدئية على الآخرين من قبل الأشخاص والجماعات. إنّ هذا الحق يضم بين جوانحه دلالات على الحقوق الأخرى؛ ومنها الحريات المدنية والأساسية، والتي ترتبط هي الأخرى بسائر حقوق الإنسان الأساسية والمصرّحة؛ كحق الملكية والحياة والحرية، كما يؤكد عليها جون لوك.
ودون الخوض في حيثيات تحقيق هذا الحق المبدئي وامكانيته في النظام الديموقراطي، وبعيداً عن جانبه السلبي، هل ثمة شيء من هذه الحقوق مطروح في الثيوقراطية؟ وفي حال وجود هذه الحقوق كما هو مصرح في الليبرالية الديموقراطية، أ هي فردية بحتة أم أنها ذات طابع جماعي واجتماعي؟ وفي حالة فقدان نص ديني مباشر لهذه الحقوق، ألا يوجد في الدين ما يمنع الاهتمام بهذه الحقوق؟ من الواضح أننا - وبالنظر إلى محورية الأخلاق في الحكم الديني - لا نتوقع - حسب قول الكاتب - انحصار الاهتمام بالحقوق الفردية الموجودة لدى الليبرالية الديموقراطية؛ فالالتزام بالحقوق الأخلاقية والاجتماعية، ولا سيما الثقافية، يضيق دائرة الحقوق الفردية بشكل طبيعي.
حكومة الفضيلة الأفلاطونية
إن أكثر الكلمات الرئيسية مثل: "الملكية" ، "حكومة الأشراف" و "الديمقراطية" التي تكون متداولة في وصف مختلف الحكومات، قد أخذت من اليونان وروما القديمة؛ فموضوع السياسة الرئيسي في جميع هذه المصطلحات كان شيئاً واحداً وهو توزيع السلطة بحيث يتم تعريف الحرية والسعادة البشرية على أفضل وجه. كان أفلاطون يعتقد بأنّ "الفضيلة" هي هدف السياسة، وأن العديد فقط سيدركون فهم هذا العلم فهماً كاملاً. وبزعمه أن علم السياسة له "نظرة عميقة في باب جميع الحقائق وكل الوجود". فالفضيلة تكتسب عن هذا الطريق ولا يمكن إلا لهؤلاء الذين تلقوا التربية والتعليم في أن يحكموا الآخرين. ومن وجهة نظر أفلاطون، فإن أفضل شكل للحكومة هو حكومة "الحاكمون الفلاسفة" أو "الفلاسفة الحاكمون". ويمكن أن تتجلى على شكلین: "الحکومة الملكية" أو "حكومة الأشراف". ولكن القوانين الأصلية والأساسية باقية في مكانها. وكل ذلك من أجل الوصول إلى الشكل المطلوب من "الحكومة النموذجية" والحكومة الكاملة أي الحكومة "العادلة والصالحة" التي تختلف عن "حكومة الأشراف" و"الحكومة الديمقراطية" و"الحكومة الظالمة". ولهذا السبب أضاف أفلاطون بعد ذلك "تعدد الحكومة الوسط" إلى هذه المجموعة. ولكن جميع هذه الأشكال "العادية والسابقة كانت موجودة عند اليونان المتحضرين وبين البرابرة غير المتحضرين".
ولكن تلميذ أفلاطون، أرسطو، قسم مختلف أشكال الحكومات إلى نوع آخر. وبزعمه فان من الممكن أن تكون الحكومة "مؤلفة من مجموعة أو من عدد كثير من المجموعات وأن تعمل على ضمان المصالح الشخصية أو المصالح المشتركة". وعلى هذا فإن هناك ثلاث حكومات وليس نوعاً واحداً من الحكومات الدينية: "الملكية" و"حكومة الاشراف" و"النظام الدستوري". على كل حال، فأرسطو وصل إلى هذا التصور في تحليله لإشكال حكومات عصره المختلفة، فالأنظمة الحكومية لـم تتوجـه إلى حكومـة الأشراف ولا نحـو الديمقراطية، بل نحـو نظام بيـن هذا وذاك.
ثلاثة مقومات للسلطة الإسلامية
في بحثه عن مقومات السلطة الإسلامية يستعرض المؤلف تجربة الثورة الدستورية المعروفة بـ "المشروطة" ويذكر ما وضعه آية الله النائيني(قد) من أفكار في هذا المجال.
يحدد الميرزا النائيني ثلاثة مقومات للدولة الإسلامية هي: مساواة الشعب والحكام أمام القانون، والحرية من أغلال الأسر والاضطهاد، ومشاركة الشعب في اتخاذ قرارات الحكم العامة واستشارة عقلاء الأمة من قبل الحكام. ويؤكد على تقييد الحكم من خلال الإشراف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحديد صلاحيات الحكومة قانونياً، والمحافظة على النظام ومصالح الشعب، بدلاً من إرادة الحاكم، وأهوائه. والحكومة الشرعية - كما يراها النائيني - هي حكومة مقيدة محددة عادلة ومشروطة ومسؤولة، ويصف حاكمها بالمحافظ، والحارس، والقائم بالقسط والعدل، والمسؤول، والعادل.
يوجد الكثير في سيرة الرسول الأعظم(ص) وأمير المؤمنين علي بن ابي طالب(ع) النظرية والعملية، ما يؤشر على الحق المتبادل بين الإمام والأمة، والوفاء بالمواثيق الاجتماعية، ولزوم البيعة، إلى جانب تأكيدهما على حق الناس في التمتع بالأمن والاستقرار الداخلي والخارجي، والعدالة الاجتماعية، والمساواة أمام القانون، وتقديم النصيحة للحاكمين، ومراقبة أفعالهم وسلوكهم. وللتأكيد على الجوهر الأخلاقي للحكم الإسلامي يشير الكاتب إلى الخطبة الـ 34 من نهج البلاغة وفيها:
«أيها الناسُ! إنّ لي عليكُمْ حقَّاً، ولكم عليَّ حقٌ؛ فأما حقكم عليّ، فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كي لا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم».
إن الامام(ع) - وفي هذه العبارة - يؤكد أن النصيحة للأئمة ليست حقاً فحسب؛ وإنما تعتبر تكليفاً دينياً يوضح موقع النقد وضرورة وجوده وأهمية حضوره في المجتمع. أمّا ما كتبه الإمام(ع) في عهده لـمالك الأشتر، فإنه يفصل هذه الحقوق المتبادلة، ونشير إلى بعضها كالآتي:
حق التعليم والتربية الدينيين، حق المحبة والرحمة، حق الصفح والعفو، تكليف الحكام في الابتعاد عن الروح السلطوية والتمسك الصوري بالقانون، الإلتزام بالحق والجدارة والكفاءة في توزيع المناصب، حق العدل بوجهيه الجزائي والتوزيعي، والمودة والود بين الناس، حق المشورة والمشاركة، حق الوفاء بالعهود والمواثيق، حق الحصول على الفرص المتكافئة والعدالة الاجتماعية، وتكليف الحكام بتجنب احتكار السلطة، وتكليف الحكام بتجنب الظلم والحدة.
إنها عبارات بليغة تدل على نظرة الوالي المسلم الخاصة إلى رعيّته وحقوقها، دونما تمييز بين المسلم وغير المسلم، وحتى لو نظرنا اليها كوصايا أخلاقية، فهي تعبر عن فلسفة سياسية وإنسانوية خاصة تقر في جانب منها بحقوق الإنسان المبدئية. وما يعطي لهذه الأحكام والوصايا الأخلاقية والتكاليف الشرعية ضمانة مضاعفة،هو التقيد بها من جانب حاكم المسلمين تحت كل الظروف المكانية والزمانية.
قصارى القول أن كتاب عماد أفروغ "نقد السلطة من منظور أخلاقي" يكتسب أهمية كبيرة واستثنائية في الزمن الراهن خاصة لناحية ما يغشى هذا الزمن من الأوهام الإيديولوجية، وأضاليل الاستبداد السياسي للسلطة.
قراءة وتحليل: مصطفى المنصوري
برچسب ها :
ارسال دیدگاه




