
مقالة
السِّياق ودورُه في تفسير القرآن
الجزء الثاني والأخیر
المسألة الثانية: السياق قاعدة من قواعد التفسير
من شأن القاعدة أن تكون مطّردة وقابلة للانطباق على مواردها من دون اختصاصها بموردٍ دون آخر وإلا اختصت به لا غير، ولو رجعنا إلى السياق لوجدنا له الصلاحيّة الشاملة للانطباق على سائر الآيات الشريفة بدون استثناء، وحينئذٍ يحقّ لنا أن نعدّه من القواعد التفسيريّة التي تستعمل وتوظّف في تفسير كلّ القرآن بدون اعتراض.
المسألة الثالثة: أنواع السياق القرآني
توجد أربعة أنواع للسياق القرآني:
الأوّل: السياق بين كلمات وألفاظ القرآن الكريم
وهو تفسير المقطع المراد من القرآن الكريم بلحاظ سياق الألفاظ أو القرائن المحيطة به ولو كانت في نفس الآية الكريمة، وهو شائعٌ كثيراً وتزخر به تفاسير الأعلام.
الثاني: السياق بين الآيات بعضها ببعض
وهو تفسير آية معيّنة نتيجة ملاحظة ما يسبقها أو يلحقها أو ما يتناسب معها من الآيات ولو كانت في موضعٍ آخر، فيلحظ الجميع بمنظار وسياق واحد، وهذا النوع ذائع ومنتشر أيضاً، ويمكن أن يكون منه ما لو تمّ اكتشاف سياق سورة بأكملها كمحور عام فينظر إلى جميع آياتها من خلال هذا المحور.
الثالث: السياق بين سورةٍ وأخرى
وهو تفسير سورة من السور بملاحظة بعض الجوانب والسياقات المشتركة بينها وبين بعض السور الأخرى، كما لو انطبعت السور المكيّة بخصائص مشتركة -مثلاً- لا تتوفّر عليها السور المدنيّة فيكون تفسيرها مطعّماً ومشرّباً بلون هذه الخصائص وتلحظ بعين الاعتبار.
أو تلحظ العلاقات والمناسبات بين السور بحسب ترتيبها في المصحف الشريف، إذ قيل: إنّ بينها تمام التلاؤم والانسجام وإنّ هناك ارتباطاً بين خاتمة كلّ سورة وبين افتتاح السورة التي تليها أو توافق بين مضمون السابقة وبين اللاحقة في تتميم الأغراض القرآنية.
نعم هذا يتم على القول بتوقيفيّة ترتيب السور من قبل الله تعالى، أمّا على القول بعدم ذلك وأنّ الترتيب الموجود حصل بعد رحيل الرسول الأعظم| باجتهادٍ من البعض فلا محصّل للتعويل عليه، نعم هناك من ذهب إلى إمكان ملاحظة سياق ترتيب السور إذا ثبت بالدليل ترتّب واحدة على أخرى بحسب النزول لا بما هو مثبت في المصحف المتداول من ترتيب.
الرابع: سياق القرآن بأكمله
وهو تفسير جميع الآيات والسور ضمن سياق الهدف العام الذي نزل القرآن من أجله وهو الهداية، فحتى الآيات العلميّة التي تتحدّث عن بعض أسرار الكون والسماء والأرض وغير ذلك لا تخرج عن إطار التربية والهداية وبناء الذات الصالحة والنّفس الكاملة، وهذا السياق مهم للمفسّر كثيراً حتى يحافظ على الصورة الإجمالية للقرآن ورسالته ومراميه.
المسألة الرابعة: شروط التمسّك بالسياق في التفسير
لا ريب في أنَّ هناك ضوابطَ وشروطَ عامّة تقنّن وتنظّم الاستفادة من السياق بشكل صحيح، ويكون في مراعاتها اجتناب الوقوع في الشبهات والانحرافات، لوضوح أنَّ أيَّ زللٍ وخروج عن معاني القرآن وتعاليمه القويمة يعني الابتعاد عن الدين وأحكامه وأصوله، ومن أبرز هذه الشروط:
١- العلم أو الاطمئنان بوجود القرينة ووحدة سياق الكلام، فمع احتمال التعدُّد لا يتسنَّى لنا التمسّك بالسياق.
٢- الموضوعيّة والنَصَف في التعامل مع سياق النصوص، فلا نقبله في مورد ونغض الطرف عنه في آخر.
٣- ألا نحمّل السياق خلفيّاتنا السابقة ونلزمه بها، بل المطلوب منّا أن نلتزم بمؤدّاه وإنْ كان على خلاف ما نهوى ونميل، فهو الحجّة علينا وليس العكس، كما يجب ألا نحمّله فوق ما يحتمل أو نستنقص من دلالته شيئاً.
٤- أنْ نتّبع في فهمه الطريقة العرفيّة العامة في المحاورة، ونتجنّب الذوق الشخصي الشاذ والتبرّعي الذي لا ينهض عليه شاهدٌ أو دليل.
٥- وأخيراً لا بدَّ لمن يستعمل السياق من أنْ يكون مؤهّلاً وصاحب صنعة وخبرة في هذا الفن، وإلا فالمدّعون والمتطفّلون كُثُر، كلّ ذلك مع الاستضاءة بمعادن الحكمة وأوعية العلم -ممّن نهلوا من معين القرآن وارتشفوا زلاله وكانوا ترجمانه بحق- محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
المسألة الخامسة: نموذج تطبيقي للقاعدة
استكمالاً للعرض المتقدِّم وتتميماً للفائدة نورد أحد النماذج التطبيقية للقاعدة لنرى كيفَ يتأثَّر التفسيرُ بها سلباً أو إيجاباً -على أنَّ كتب التفاسير القديمة والحديثة تزخر بالأمثلة الكثيرة المتنوّعة التي يستفاد فيها من السياق-:
في قوله تعالى شأنه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ...} ذكر الزمخشري أنَّ هناك من فسَّر العباد في قوله تعالى {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} بالمعصومين خاصّة ولم يرد مطلق العباد وذلك لأنَّه أراد عباده الذين عناهم في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}.
ولكن لو رجعنا إلى مطلع الآية {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} فهي خطاب عام شامل لكلّ المكلَّفين، وكذلك الحال في قولهa: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} فإذا بنينا على تفسير العباد بفئة المعصومين فقط فسيكون مجموع معنى الآية: إن تكفروا جميعاً فالله سبحانه لا يحتاج إلى إيمانكم ولكن لا يرضى أن يكون عباده المعصومين فقط كفاراً وأمّا لو شكرتم النّعمة جميعكم فهو سبحانه يرضه لكم، أي توسَّط خطاب إلى الخواص وسط خطابين إلى عامة العباد.
ويرد عليه: إنَّ هذا خلاف السياق العام للآية الكريمة ويترتّب عليه تالٍ فاسد، وهو أنَّ الله سبحانه يرضى الكفر لمن كفر من الناس ولم يشكر النّعمة، وذلك باعتبار أنَّ عدم رضاه بالكفر اختصَّ بالمعصومين فقط، وأمَّا غيرهم من سائر الناس فلا، وهو معنىً لا يستقيم وفيه ركّة وضعف.
والأوفق لوحدة السياق أن يكون الخطاب في المقاطع الثلاثة لعامة العباد ويكون معنى الآية الشريفة: أيّها الناس إن كفرتم بنعمة الله تعالى فهو لا يحتاج إلى إيمان أحدٍ منكم لحكم غناه وكونه واجباً للوجود لا يفتقر إلى شيء، ولكن لكونكم عباده فلا يقبل أن تكونوا كفاراً ويود أنْ تصبحوا جميعاً من الشاكرين، أمّا لو شكرتم النعمة فهو يرضى عملكم ويباركه.
وهذا التفسير والمضمون في غاية القوّة والانسجام ولا يلزم منه توالي فاسدة، والبركة في انتخابه ترجع إلى ملاحظة السياق والنظر إلى مجموع الآية كحلقة واحدة منتظمة.
الخاتمة
بحث السياق شيِّق ومفيد ويستحقُّ منَّا زيادة التعمُّق والتبصُّر في مطالبه، وقد اقتنصنا منه العديد من الثمرات والنتائج، من أبرزها:
أ- دور السياق دائماً هو توجيه الكلام الوجهة الصحيحة التي يرومها المتكلِّم.
ب- السياق لا يتعارض مع الظهور إطلاقاً؛ لأنَّ أصل الظهور لا ينعقد إلا بعد ملاحظة السياق.
ج- وجود الخصوصيَّة للقرآن الكريم -من حيث كونه كلاماً معصوماً ومعجزاً- يجعل عمليَّة التعامل مع سياقه في غاية الدقَّة والخطورة.
د- أكثر أنواع السياق ذيوعاً وانتشاراً هو سياق الكلمات مع بعضها البعض في الآية الواحدة، وسياق الارتباط بين الآيات.
ﻫ- عدم مراعاة شروط التمسُّك بالسياق له عواقب وخيمة، وغالباً ما تقود إلى فهمٍ خاطئٍ ومشوَّه للدين وابتعاد عن أصوله وأحكامه.
و- استعمال السياق في التفسير يفتقر إلى خبرة وتأهيل خاص، ويحتاج إلى استضاءات مستمرَّة بروايات أهل العصمة والطهارةi طول الطريق.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
انتهت
المصدر: رسالة القلم، العدد 54
الشيخ عبدالرؤوف حسن الربيع
برچسب ها :
ارسال دیدگاه